فجواتٌ بين القانون والواقع ضحيتها عاملاتُ منازل، وخسائر لأرباب العمل.

Posted by

إسراء عكاشة، شذى الجابري، ميس أحمد –

“مضت حوالي سنة ولا أزال موقوفةً إدارياً في السجن، لم توجه لي أي تهمة.. أنا في انتظار الرجوع الى بلدي”  هذا ما قالته فيرمندا جولز (٤٠ عاما) التي تركت منزل ربِّ عملها بسبب خلافٍ حول سفرها إلى الفلبين، وهي الآن في السجن دون أي تهمة على الإطلاق.

فيرمندا واحدة من بين 515 عاملة موقوفة إدارياً وفق إحصائية “إدارة الإصلاح والتأهيل” لعام 2016. عاملاتٌ جِئْنَ إلى الأردن لتحسين ظروفهن المعيشة ، فانتهى الأمر ببعضهن إلى التوقيف الإداري وبالمحظوظات منهن إلى العمل لحسابهن في توجّسٌ دائم وخوفٍ لأنّ وضعهن  غيرُ قانوني.

نظام “كفالة” مُقيِّد

وفق شيرين مازن الباحثة في “تمكين” في قضايا حقوق الإنسان، عمالة المنازل في الأردن خاضعة لنظام “الكفالة”، هذا النظام ليس موجوداً في القانون لكنه مطبق على أرض الواقع. فالعاملة عاجزة عن التصرف تماماً إلا من خلال رب العمل، حتى أنه في “حالة لعاملة، صاحب العمل توفى، وكاتبلها بورثته مبلغ مالي معين لإنها كانت تدير بالها عليه. ما قدرت تغير صاحب العمل إلا بس ييجوا الورثة يتنازلوا عنها، يعني ضموها بالورثة !!”.

هذا ينسحب على تجديد تصريح العمل والإقامة السنوية وكافة الأوراق الثبوتية. تبقى عاملة المنزل خاضعة تماماً لتصرف رب العمل في وضعها القانوني.

في هذه الحال ليس أمامها سوى واحد من خياراتٍ ثلاث تلجأ إليه:

  1. المكتب الذي استقدمها.
  2. سفارة بلادها في الأردن.
  3. مراكز حقوق الإنسان.

لكنّ هذه الخيارات محكومة بعدّة عوامل أيضاً:

  1. مدى مقدرة العاملة على التواصل مع العالم الخارجي، بناءً على مستوى التعليم والذي يكون بسيطاً في الغالب الأعم خصوصاً في أوساط جنسيات العاملات الأكثر فقراً.
  2. توفر المعلومة من عدمه، فبعض العاملات لا تعرف أيَّ معلوماتٍ تُذكر عن سفارة بلادها، أو عن المراكز الحقوقية القادرة على المساعدة.إمكانية التواصل مع أي كان من خلال الهاتف، والذي يحدد استخدامه رب العمل.

وإن انعدمت الوسيلة في سلوك أي من الاتجاهات الثلاث، فالخيار الوحيد المُمكن هو ترك منزل رب العمل إلى الشارع !!

يذكر سائق التكسي مازن شاهين أن عاملةً بنغالية “كان مبين عليها إنها هاربة” لأنها تحمل حقيبة ملابسها وتبدو مرتبكة، ركبت التكسي وطلبت منه التوجه إلى المطار وحين سألها إن كان بحوزتها مال لدفع الأجرة أخرجت له 35 قرشاً، فسألها إن كان بحوزتها جواز السفر، وحين أجابت بالنفي قرّر أن يأخذها إلى سفارة بلادها.

فجواتٌ بين القانون والتطبيق

ماذا لو اختارت العاملة اللجوء إلى المكتب الذي استقدمها؟

وفق المادة (14) من نظام تنظيم المكاتب الخاصة العاملة في استقدام واستخدام غير الأردنيين العاملين في المنازل  فإنَّ على المكتب الاتزام بتسفير العاملة على نفقته خارج البلاد إذ رفضت العمل خلال الشهر الأوّل من دخولها المملكة، واستبدالها بعاملة أخرى دون تحمل ربّ العمل أي تكاليف مادية وبالرسوم ذاتها المدفوعة مُسبقاً.. لكنَّ هذا النص حبرٌ على ورق !

الواقع أنَّ مكاتب الاستقدام ليست على استعدادٍ لتحمل هذه المخاسر المادية فقط لأنَّ العاملة رفضت العمل. وهنا تبرزُ الفجوة الأولى، لأن مكاتب العمل تتحايل على هذا النص بإبقاء العاملة في البلد وتشغيلها لدى رب عمل آخر.. وهكذا يستمر تبديل العاملات كسلع، في أفضل الأحوال.

لكن خياراً آخر قد يتضمن “ضرب” العاملة لتنصاع لأوامر ربّ العمل، وإن رغماً عنها. نادية ابراهيم ربة عمل ترفض مبدأ الإعتداء الجسدي على العاملة لأنه “كيف بدنا نأمنها على حالنا وإحنا نايمين لو حقدت علينا”، لكنّها لا تُمانع أن تُضرَب في مكتب الاستقدام وفق نصيحة صاحب المكتب “واعملي حالك بتدافعي عنها” حتى تخضع العاملة دون أن تحقد على ربة العمل !

الخيار الثاني في اللجوء إلى السفارة يعتمد على مدى تعاون السفارة، فالقنصلية الفلبينية مثلاً توفر مأوى Polo  للعاملات الفلبينيات وتتابع القضايا القانونية المتعلقة بهن وتساعد بعضهن على العودة إلى الفلبين. لكنَّ سفارة بنجلادش في المقابل لا تُوفّر مأوىً لنقص الموارد المالية وضعف دعم الحكومة البنغالية، وإن كانت تخشى توفير المأوى كيلا يُشجع ذلك العاملات غير الراغبات في العمل إلى ترك العمل بلا سبب واللجوء إلى مأوى السفارة بحسب ما ورد في تقرير “نساء مهمشات” لمركز “تمكين” للدعم والمساندة.*

السفارات من ناحية أخرى تفتقر لوسيلة تواصل مع مواطنات بلادها من عاملات المنازل داخل منازل أرباب العمل، مما يجعل متابعة العاملات ووصولهن إلى السفارة لتقديم الشكوى أمراً صعباً.

إن لم تكن العاملة على علم بالمراكز الحقوقية فإن خيارها الأخير هو في ترك منزل رب العمل، والاتجاه إلى الشارع – دون أوراق ثبوتية غالباً – بحثاً عن فرصة عمل جديدة بمعزلٍ عن المكتب ومن دون غطاءٍ قانوني.

حتى لو وفقت العاملة للعمل لدى رب عمل جديد، فإن وزارة العمل تعتبر هذا الأمر غير قانوني، وبحسب الدكتور هايل الزبن مدير مديرية العاملين في المنازل إذا تمّ ضبط العاملة التي تركت بيت رب العمل، يلتزم ربّ العمل الذي ضٌبطت تعمل لديه بغرامات تأخير تجديد تصريح العمل وإقامة العاملة، بالإضافة إلى ثمن تذكرة عودتها إلى بلادها.

التوقيف الإداري

المادة (10) من “نظام تنظيم المكاتب الخاصة العاملة في استقدام واستخدام غير الأردنيين العاملين في المنازل” وضعت التزاماً على صاحب العمل أو من يفوضه إبلاغ الوزارة والمركز الأمني المختص خطياً عند ترك العاملة المنزل دون موافقته أو إشعاره بذلك خلال مدة لا تزيد عن (48) ساعة من تركها العمل. لكنَّ بعض أرباب العمل لا يكتفون ببلاغ التغيب بدعوى أن الجهات الأمنية لن تُلاحق العاملة إلاَّ لو كان بحقها بلاغ سرقة، وهذا ما يزيد من عدد بلاغات السرقة “الكيدية” التي يقدمها أرباب العمل بحق العاملات بحسب مركز “تمكين” .

وحين يتم القبض على العاملة تحوّل إلى الحاكم الإداري الذي بدوره يُحولها إلى التنفيذ القضائي ومنها إلى إدارة الإصلاح و التأهيل حيث يتم توقيفها إدارياً و تبقى محتجزة في انتظار جلسة المحكمة التي ستبت بقضيتها التي اتُّهمت بها.

تعديل عام 2012 على نص الفقرة (ب) من نص النظام السابق ذكره يعطي “للوزير أن من يفوضه عدم منح تصريح عمل أو تجديده إذا تبين أن صاحب المنزل أو أحد أفراد أسرته قد انتهك حقوق العامل أو اعتدى ليه بالضرب أو ألحق به أي ضرر أو أساء معامتله على أن يعطى العامل في هذه الحالة الفرصة للحصول على تصريح عمل جديد لدى صاحب منزل آخر” . هذا النص أول نص يمنح عاملة المنزل حق تغيير صاحب العمل، لكنه يشترط إثبات الإساءة من صاحب العمل. والتحقيق لمعرفة أسباب ترك العاملة منزل رب العمل لا تتم بحال من الأحوال.

 

في واقع الأمر، البت في القضايا العالقة بحق العاملة لا يُنهي التوقيف الإداري دائماً.. فأكثر الموقوفات اللواتي كُف الطلب عنهن بخصوص القضايا يبقين قيد التوقيف الإداري لعجزهن عن السفر.

تذكرة سفر العودة تتكفل بها السفارات أحياناً لأعداد ضئيلة من العاملات الموقوفات، وبحسب الوضع المادي للسفارة نفسها، جهات أخرى مختلفة تتبرع ذاتياً لتوفير أثمان التذاكر للعاملات. لكنَّ الإبعاد إلى بلاد العاملة ليس دائماً خيار العاملة نفسها، فهي لا تستطيع البقاء في الأردن للبحث عن عمل بديل، الإبعاد إجباري.

قصور في التنظيم

العاملة في الأغلبية القصوى من الحالات لا تفقه محتوى عقد العمل المكتوب باللغتين العربية والإنجليزية، وأغلب عاملات المنازل لا يتحدثن أياً منهما.

نرجس بيجوم عاملة من بنجلادش وموقوفة إداريا بعد اتهامها بالسرقة تقول: ” لم أزُر مكتب التوظيف أبداً، زوجي و أمي أقنعاني أن أسافر للعمل لأجل ابنتي، وأنا وافقت“.

إذ في حين يحصل رب العمل على تفاصيل كثيرة – وإن افتقرت للدقة أحياناً – عن العاملة التي سيستقدمها المتكب للعمل لديه، إلا أنَّ العاملة لا تحصل على ذات القدر من المعلومات عن رب عملها المستقبلي.

وإن علمت عددَ أفراد الأسرة وطبيعة عملها تقريباً، فهي قد تصطدم بالواقع حين مجيئها للأردن، لأنَّ الممارسات الفعلية لا تُطبّقُ شروط العقد الصريحة فيما يتعلق بحقوق العاملة، ومنها على سبيل المثال:

  1. دفع أجر العاملة خلال مدّة أقصاها سبعة أيام من تاريخ استحقاقه.
  2. عدم فرض أي قيود على مراسلاتها.
  3. منحها يوم راحة أسبوعيّة، بحيث لا يجوز لها مغادرة المنزل دون إذن ربّ العمل.
  4. الالتزام بثماني ساعات عمل يومياً.
  5. تأمين مكان سكن و مأكل و ملبس و رعاية صحيّة و بشكل مناسب.

لكنَّ مخالافات هذه الحقوق واسعة وواضحة، فالعاملة في بعض البيوت يُفترض بها الاستيقاظ مبكراً قبل العائلة، وألاَّ تنام وفي البيت ضيف، حتى لو طال السهر. الالتزام بساعات عمل محدّدة غير وارد.

نادية ابراهيم تصطحب العاملة لديها في الزيارات العائلية، وتبرر قيامها بالأعمال المنزلية في بيوت الأقارب بأنه “مش معقول يقوموا يشتغلوا والخدامة قاعدة !!”.

العائلات الأردنية تُعامل هؤلاء العاملات بتقاليد المجتمع، فليس مسموحاً أن تأخذ العاملة يوم أجازةٍ أسبوعي لأنّ المجتمع المحافظ لا يتحمّل نتائج علاقاتٍ محتملة من جهة، ولأنّ احتكاكاها بعاملاتٍ أُخريات قد يحرّضها على ترك العمل في المنزل والاستقلال لتعمل لحسابها.

“مكالمةٌ شهرية واحدة على نفقة صاحب العمل، وأي مكالمات أخرى على حساب العاملة” هذا ما يُنصح به عمر العلاونة من مكتب “إيوان” لاستقدام عاملات المنازل. غير أنَّ كثيرين يفهمون هذه العبارة بمعنى الحصر، وأنَّ العاملة ليس لها أن تتصل بعائلتها غير مرّةٍ واحدة شهرياً !

“كثرة المكالمات بتخليها تحن لولادها وعيلتها، وكل ما تسمع خبر مش كويس بتنكد علينا” لذلك تُفضّل نادية ألاَّ تُكثر العاملة لديها من المكالمات الهاتفية. لأنه “مش ناقصنا نكد”.

لكنّ الانتهاكات قد تتعدى كلّ ذلك إلى الاعتداءات الجسدية، هذا ما أكدته العاملة نرجس بيجوم من الجنسية البنغالية حين ذكرت قيام العائلة التي عملت لديها بضربها والاعتداء عليها. رغم توقيع الاردن على المواثيق و الاتفاقيات الدولية المعنية المتعلقة بحماية حقوق العمال و المهاجرين – ( المادة 8 من العهد الدولي للحقوق المدنية و السياسية حرّمت العمل القسري و اكدت على رضائية و طوعية عقد العمل دون تهديد او ضغط .) – إلاّ أن الإطار  القانوني ضعيف ولا يحمي عاملات المنازل حين يتعرضن لهذه الانتهاكات.

“مديرية العاملين في المنازل” التابعة لوزارة العمل  تقوم بتسوية الخلافات المتعلقة بعاملات المنازل، و التفتيش على المكاتب المخالفة و إغلاقها  في حال لم تصوب أوضاعها التي تسببت بالإنذار. وبحسب التقارير الشهرية فإن عدد الشكاوى الواردة للمديرية لعام 2015  بلغت 704 حالة مقابل 876 شكوى في 2016 ، فيما بلغ عدد المكاتب التي تم توجيه إنذارات بحقها لعام 2015 و 2016 على التوالي، 32 و 55 مكتب.

الأردن سنَّ قانون منع الاتجار بالبشر رقم 9 لسنة 2009 والذي يعرف الاتجار بالبشر على أنه ” استقطاب أشخاص أو نقلهم أو إيوائهم أو استقبالهم بغرض استغلالهم عن طريق التهديد بالقوة أو استعمالها أو غير ذلك من أشكال القسر”. وقد أرسل مركز “تمكين” 195 حالة متعلقة بعاملات المنازل إلى “وحده مكافحة الاتجار بالبشر” خلال عام  2016 ، بينما أحالت إليها وزارة العمل ما يقارب 90 حالة.

التجاوزات لا تبدأ في الأردن، فبداية الرحلة من مكاتب التوظيف في بلدان العاملات، التي قد تُزوّرُ عمر العاملة أو   عدد أطفالها أو حالتها الاجتماعية أو عدم التحقق في حال وجود أسبقيات سابقة بحقها تفتح بداية الطريق لتوتر العلاقة بين العاملة ورب العمل.

حاجة المجتمع الأردني لعاملات المنازل

نادية ابراهيم مضطرة للاستعانة بعاملة في أعمال المنزل، “لأنه عندي تنتين مرضى” وليس هناك من يعينها في القيام بمسؤولياتها المتعدّدة ما بين العناية بأمها وأختها المريضتين وإدارة أمور المنزل.

عدم توفّر حضانات أطفال يزيد من إقبال الأمهات العاملات على الاستعانة بعاملات المنازل، وأحياناً وجود كبار السن في المنزل ممن هم بحاجة لعناية دائمة سببٌ آخر، لكنَّ الوضع الاقتصادي العام للأردنيين يزيد من الإقبال على استقدام العاملات الأقل أجراً.

العاملات من بنجلادش هن الأقل أجراً وخصوصاً حينما لا يتمتعن بالخبرة المُسبقة، هذا ما جعل أعداد عاملات المنازل البنغاليات في تزايد كبير مؤخراً، وسبب الاعتقاد السائد بأن “أكثر المشاكل من عاملات الجنسية البنغالية” وتستدل على ذلك نادية بأنَّ عاملتين من أندونيسيا بقيت كل منهما لديها ثلاث سنوات كاملة “من دون أي مشاكل” لكنَّ عاملتين من الجنسية البنغالية والسيريلانكية “بعد شهرين زمان بهربوا”.

وفي واقعٍ تعددت فيه الخيارات بين استقدام العمالة المنزلية عن طريق المكاتب أو الاستعانة بعاملات المنازل اللواتي يعملن لحسابهن الخاص وفق “نظام العمل بالساعة” تتباين آراء الأردنيين.

نادية ابراهيم لا تفضل أن تستعين بعاملة تعمل 6 ساعات مقابل 25 ديناراً لأنها في نظرها “ما بعرف من وين جاية ولا بعرف كيف أوصلها لو أخدت شي من بيتي” بينما العاملة التي تُحضرها من المكتب تحتفظ بكل وثائقها و “بقدر أرجع للمكتب لو صار بيني وبينها مشكلة”.

*موعدنا مع السفارة البنغالية أُلغي من قبلهم قبل الموعد بساعتين، وكتاب المعهد لطلب موعد في السفارة الفلبينية لا يزال قيد بحث السفير حتى موعد إعداد التقرير.

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *