الرصيفة .. بؤرة بيئية ومجتمعية ساخنة

Posted by

 

 

تقرير شامل :

الرصيفة .. هجرات صنعت اللواء

وكثافة سكانية تعجز مساحة المدينة عن استيعابها

“الرصيفة مدينة المهاجرين، سكانها جاؤوا من كل حدب وصوب”. بهذه الكلمات وصف رئيس لجنة بلدية الرصيفة حمدان السرحان الرصيفة وسكانها.
بدأت الرصيفة بالتشكل منذ عام 1900 ، يقول السرحان. ويضيف أول مجموعة مهاجرة وصلت الرصيفة كانت شركسية فروا من الاضطهاد من القوقاز.
تبع الشركس؛ الأرمنيون وكان ذلك عام 1915، فقد سكنوا الرصيفة لفترة طويلة ثم رحلوا عنها واستقروا عمان والزرقاء.
ذاكرة المكان وحدائقها الغناءة ومياهها العذبة لا تزال محفورة في ذكريات الثمانيني الحاج جودت الشركسي. يستذكر أيام طفولته وشبابه كيف كانت الرصيفة مليئة بالأشجار المثمرة وغيرها، وكيف كان سيلها عذب المذاق خرير مائه كأنه نغم تطرب الآذان له، كما يقول .
شكلت نكبة فلسطين ونكستها انعطافة في ديمغرافية المكان وزيادة سكانه. لتأتي بعدها عودة المغتربين من الخليج وخاصة من دولة الكويت بعد الحرب لتزيد أعداد السكان بشكل لافت.الزيادة المضطردة في عدد السكان خلق واقعا مريريا في المدينة، بدءا من البناء العشوائي وأزمة السكن مرورا بضغط هائل على الخدمات والبنى التحتية التي هي في الأساس ضعيفة، وواقع اقتصادي ومعيشي صعب وبطالة بين فئة الشباب. ومع بروز ظاهرة التطرف ظهرت لدى شريحة من شباب الرصيفة نزعة الانضمام لهذه التنظيمات والانضواء تحت لوائها. وفي المواد الصحافية التالية نستعرض جوانب الحياة في المدينة ، ونلقي الضوء على ظاهرة الانضمام لجماعات متطرفة ونحاول معرفة واقع الشباب المعيشي قبل انضمامهم لجماعات متطرفة.

وتشكل مساحة بلدية الرصيفة والمقدرة بـ 38 كيلومتر مربعا ما نسبته 0.73 % من مساحة المحافظة الإجمالية البالغة 5224 كيلو مترا مربعا، بينما يشكل عدد سكان اللواء 34.73%.

ارتفع عدد سكان لواء الرصيفة بشكل مضطرد خلال الثلاثين سنة الماضية. متأثرا بعدة عوامل منها؛ ازدياد عدد المواليد والهجرات القسرية وانخفاض نسبة الوفيات وكذلك العمالة الوافدة.

فبحسب دائرة الإحصاءات العامة فقد كان عدد سكان اللواء عام 1979 نحو 46 ألف نسمة وفي عام 1985 كان تعداد السكان 57 ألف نسمة. أما عام  1994 فقد تضاعف الرقم ليصل إلى 137.247 نسمة وفي عام 2004 وصل عدهم إلى 260.521 ، أما في عام 2010 ارتفع إلى 314.632 نسمة ليقفز بنهاية عام 2015 إلى 481900 نسمة.

وقد بلغ معدل النمو السكاني للمدينة من عام (1961 – 1980) حوالي 5.7 % في حين أن معدل النمو السكاني للأردن للفترة ذاتها حوالي 3.4 % .

ومع أن النمو السكاني في لواء الرصيفة تناقص وقد بلغ عام 2015 إلى 2.4 % إلا يبقى مرتفعا وبخاصة في ضوء الموارد المحدودة وضيق المساحة وسيتضاعف عدد السكان إذا ما بقيت نسبة الزيادة السكانية على ما هي عليه.

رسم بياني

أما التركيبة العمرية لسكان الرصيفة فكما التركيبة للأردن عموما لم تشهد تغيرات جوهرية فقد بقيت نسبة الأطفال حتى سن 15 سنة ونسبة السكان في أعمار القوى العاملة ثابتة. كما أن نسبة الشباب كذلك بقيت ثابتة.

وإذا قلنا إن نسبة الأطفال ثابتة فإن ذلك يعني توقع المزيد بالنمو السكاني لمدينة الرصيفة، الأمر الذي سيؤدي حتما إلى زيادة القوى العاملة والطلب على الوظائف .

رسم بياني التوزيع العددي للسكان

وبحسب الرسم البياني السابق فإن مدينة الرصيفة تقف على أعتاب تحول ديمغرافي يُعد سيفا ذو حدين فهو ناحية يحمل في طياته فرصة سكانية وآثارا إيجابية على النواحيالاقتصادية والاجتماعية إذا استُغل بشكل صحيح. وقد تمثل تحديات ترقى إلى المخاطر إذا لم تستغل بشكل ملائم وتظف في خدمة المجتمع والوطن.

ويتيح استثمار هذه الفرصة السكانية في تحسين نوعية حياة المواطنين وتوفير فرص عمل ملائمة وخفض معدلات البطالة ، وإحداث نقلة نوعية في التنمية المستدامة ، ومن ثم رفع جودة الحياة للمواطنين وتحسين أوضاعهم المعيشية. بما ينعكس إيجابا على الوضع التعليمي والصحي والسكي وجودة الحياة والتوزيع العادل لمقدرات التنمية.

وتظهر الفرصة السكانية أو ما يسمى بـ “الهبة الديمغرافية” عندما تتفوق الفئة السكانية التي هي في سن الإنتاج والعمل ( القوى العاملة المحددة من سنّ 15 – 64 عاما) على فئة المعالين تحت سنّ 15 سنة وفوق سن 65 سنة.

وأمام الازياد الكبير في أعداد السكان في لواء الرصيفة فقد غدا الطلب على بناء الوحدات السكانية متزايدا كذلك، وأدى إلى بروز ظاهرة البيوت المتلاصقة. 

الجدول التالي يظهر ازدياد عدد الوحدات السكنية في الرصيفة:

5015

2010 2004  

96.31

75.512

58.749

الرصيفة

280800 220.800 176.960

الزرقاء

                                                                                   مقارانات ديمغرافية:

محافظات أخرى لواء الرصيفة
الكثافة السكانية المساحة

(Km2)

عدد السكان الكثافة السكانية المساحة

(Km2)

عدد السكان
معان
4.4 32832 144082 10851.4 38 481900
البلقاء  
440.1 1120 493100
الكرك
90.9 3495 317500
الطفيلة
43.7 2209 96600
العقبة
27.3 6905 188700
مأدبا
201.9 940 189700
جرش
580.0 410 237700
المفرق
20.8 26551 551500

 

الرصيفة .. بؤرة بيئية ساخنة وملوثات في كل اتجاه تستعصي على الحل

ترزح مدينة الرصيفة تحت مشكلات بيئية ممتدة منذ عشرات السنوات، حتى غدت مستعصية على الحل، ويكتفي المسؤولون إزاء هذه المشكلات بإطلاق الوعود فحسب.

الثالوث البيئي الذي يضغط على صدور المواطنين يتمثل في سيل الزرقاء ومخلفات الفوسفات ومكب النفايات (المحطة التحويلية).

أما مصنع الخميرة القابع في منطقة مكتظة بالسكان فإن مشكلته امتدت لتطال جميع مناطق اللواء، فبعد أن كانت الغازات والروائح مقتصرة على المنطقة المحيطة بالمصنع، وكذلك طرح المخلفات والمياه العادمة في السيل، امتدت المشكلة لتطال مناطق أخرى جبل الحسين بسبب ري الأشجار المعمرة في المتنزه الوطني التابع للبلدية بالمياه الناتجة عن عملية التصنيع، الأمر الذي أدى إلى انتشار الروائح الكريهة وتلوث التربية.

وكانت بلدية الرصيفة قررت إغلاق مصنع الخميرة بسبب عدم التزامه بشروط وضعتها البلدية للحفاظ على البيئة، غير أن المصنع لم يلتزم وتم إلغاء قرار إغلاقه.

المشاكل البيئية دمرت لواء الرصيفة ولوثت هواءها وأثقلت كواهل أهلها.

الفوسفات في الرصيفة

 تشير منشورات شركة مناجم الفوسفات أن خامات الفوسفات في منطقة الرصيفة اكتشفت مطلع القرن العشرين في الفترة 1934 – إلى 1952 م، وقدر الإنتاج آنذاك بحوالي 200.000 طن .

وكان التعدين مقتصرا على في البداية على الجهد الشخصي لبعض المستثمرين، كما أن التعدين كان بدائيا وتتم عملية النقل داخل المناجم بواسطة الدواب ، تنقل لاحقا إلى محطة القطار ليوصلها إلى شواطئ البحر المتوسط.

في عام 1953 أنشأت شركة مناجم برأسمال قدره مليون دينار ، وضمت إليها مناجم الحسا عام 1965 بعد رفع رأسمالها إلى 3 ملايين دينار .

في عام 1967 قُدر الاحتياطي بثمانين مليون طن فوسفات ناعم وستين مليون طن فوسفات متحجر.

أما الأكوام لنفس الفترة بحوالي 3 ملايين و 900 ألف طن. بينما قُدر الاحتياطي عام 1983 بـ 75 مليون طن. وبلغ حجم إنتاج الفوسفات للعام السالف الذكر ليصل إلى حوالي 0.8 مليون طن ، والحسا 3.2 مليون طن، فيما بلغ في منجم الوادي الأبيض 2 مليون طن.

 بداية الانهيار لبيئة الرصيفة

يروي المعمرون في الرصيفة كيف كانت قبل اكتشاف خامات الفوسفات وتعدينها تنعم بالحدائق الغناء والبساتين الفسيحة على جوانب السيل، ومع تطور مدينة عمان ونموها المضطرد القت بمخلفات مجاريها في سيلها؛ رافق ذلك انبعاث الغبار من مناجم الفوسفات ، ومما زاد الأمر سوءا هو إقامة مصنع (السوبر فوسفات) على إحدى ضفتي السيل، فضلا عن إنشاء مصانع على ضفاف السيل وفي وسط المدينة ما أدى إلى القضاء على بساتينها.

تعاني الرصيفة اليوم من مشكلتين فيما يخص الفوسفات. الأولى تلوث هواء المدينة مع بقاء أكوام الفوسفات مكشوفة، والأخرى هي مشكلة الأنفاق التي حفرتها الشركة للبحث عن خامات الفوسفات، وهذه الأنفاق اليوم موجودة تحت بيوت سكان مخيم الحسين، ولا يعرف أحد كم يبلغ طولها وإلى أين تمتد.

 وزارة الصحة ترفض الحديث عن الأمراض في الرصيفة

بعد أن تقدمنا بطلب رسمي لوزارة الصحة من أجل معرفة نسبة انتشار أمراض الجهاز التنفسي والتهاب الجلد والعيون واللوزتين – التي تزداد كلما زادت نسبة تركز الغبار في الجو- إضافة إلى مرض السرطان في الرصيفة عموما والأحياء القريبة من تلال الفوسفات التي تقدر اليوم بسبعة ملايين طن؛ إلا أن الوزارة رفضت ذلك معللة بأننا يجب علينا التقدم بطلب إلى لجنة الأخلاقيات في الوزارة وقياس مدى الفائدة (من وجهة نظرهم) في منحنا أرقاما عن هذه الأمراض، ويحتاج ذلك إلى عدة أشهر للبت في منحنا المعلومة من عدمه.

وكان التقرير السنوي الرابع حول أوضاع حقوق الإنسان في الأردن الصادر عن المركز الوطني لحقوق الإنسان أشار صراحة إلى “تركز للمواد المشعة في منطقة الرصيفة جراء تراكم تلال الفوسفات الناجمة عن مخرجات عملية التعدين”.

وأوصى التقرير “بتشكيل لجنة صحية للكشف وتحديد الأمراض التي يعاني منها السكان في المناطق المجاورة للمنجم وذلك تمهيداً لاتخاذ الإجراءات اللازمة”.

ووفق الخطة التنموية لمحافظة الزرقاء للأعوام ما بين  2013 – 2016 وهي خطة وضعتها وزارة التخطيط والتعاون الدولي فإن الحكومة خصصت مبالغ لتأهيل تلال الفوسفات وهي كما يلي:

مجموع المبالغ التي رصدتها الحكومة لمعالجة تلال الفوسفات
2016 2015 2014 2013
20 ألف دينار 20 ألف دينار 20 ألف دينار 20 ألف دينار
مجموع ما رصدته الحكومة لقطاع البيئة في الزرقاء عموما بما فيها المخصص لتلال الفوسفات
5014 9513 9147 4609

المحطة التحويلية في الرصيفة  

تقع المحطة التحويلية في الرصيفة على اوتوستراد عمان – الزرقاء، وهي ملاصقة للأحياء السكنية لا سيما حيي الجندي والحسين.

وصف رئيس البلدية السابق أسامة حيمور المحطة بأنها أشبه ما تكون بمكب نفايات وليست محطة تحويلية. تشوه شكل المدينة، وتنبعث منها رواح قمامة متخمرة تزكم الأنوف. تجمع البلدية في هذه المحطة ما يقرب من 300 طن من النفايات يوميا، ثم تعيد نقلها إلى مكب الغباوي.

عاينا المحطة فوجدناها عبارة عن قطعة أرض مقام عليها بناء مساحته(30 مترا مربعا) يسمونه مكتب العمال، جدرانه سوداء اللوان من كثرة الأوساخ، أبوابه محطمة.

أما المكب فهو غير مسيج لا يوجد له بواجة تحيطة الجبال من الجهة الجنوبية والشرقية، ينبش فيه بعض سكان الأحياء الفقيرة المحطية لعلهم يجدون شيئا ما يبيعونه. ليس هناك أي إجراءات تحفظ سلامة العاملين فهم يعملون من السابعة صباحا حتى السابعة مساء دون كمامات أو حتى ملابس مخصصة لمثل هذه الأعمال و سترات واقية أ، ينقلون بأيديهم المكشوفة أكياس القمامة.

يقول مدير المحطة التحويلية   000 إن المحطة أنشأت عام 2005 بقيمة 250 ألف دينار. ويضيف إن مكان إنشائها غير مناسب،  بات لزاما نقل هذه المحطة من مكانها لقربها من الأحياء وشكوى المواطنين من هبوب روائح كريهة للغاية لا سيما في ساعات الصباح الباكر.

 وكانت بلدية الرصيفة قررت في عهد رئيسها السباق أسامة حيمور إغلاق المحطة وتحويل ملفها للقضاء لكن القرار لم ينفذ.

 

البطالة والفقر … شباب منسيون وأسر تكتوي بنيران الحرمان يحكون قصص المعاناة والألم

تشكل تحديات الفقر والبطالة أكبر هموم المواطن في محافظة الزرقاء عامة ولواء الرصيفة خاصة. غير أنه في ظل غياب الرقم الدقيق لمشكلتي الفقر والبطالة في الرصيفة تحديدا، فإنه يصعب تحديد مستوى الفقر والبطالة بشكل دقيق.

دائرة الإحصاءات العامة تصدر إحصائيات ونسبا للفقر والبطالة على مستوى المحافظة، دون تخصيص لمنطقة او لواء معين وهو ما يسبب إرباكا لدى الباحثين عن هذه النسب ضمن مناطق وألوية معينة.

وبناء عليه فإن معظم النسب التي حصلنا عليها هي خاصة بمنحافظة الزرقاء بدون تخصيص. وقد تقدمنا بطلب إلى وزارة العمل لمعرفة نسب العمالة والبطالة في الرصيفة إلا أنهم أكدوا عدم وجود هذه النسب للواء ووجودها فقط على مستوى المحافظة.

الزرقاء: قوة العمل منسوبة إلى السكان في سن العمل

التوزيع النسبي للبطالة في الزرقاء

مدير تنمية الرصيفة أحمد عطيش الزبن يقول إن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لسكان الرصيفة”صعب للغاية”، والشريحة الأوسع من المواطنين يعيشون تحت خط الفقر.

ويقدم صندوق المعونة الوطنية في الرصيفة كفالات ومساعدات لأسر ومرضى لنحو 5 آلاف أسرة، مشيرا إلى أن نحو 120 جمعية خيرية تعمل في الرصيفة وتقدم المساعدات للفقراء والمحتاجين. وبحسب الزبن فإن نسبة قليلة من الأسر المسجلة لدى مديرية التنمية الاجتماعية تتقاضي مساعدات من أكثر من جمعية.

وحول أكثر ما يحتاجه الفقراء في الرصيفة يقول الزبن الغذاء والمسكن المناسب هو أكثر ما يحتاجه فقراء المدينة. جميلة النجار ناشطة اجتماعية ومديرية جمعة التنمية المستدامة في المدينة توافق ما ذهب إليه الزبن حول ما يحتاجه الفقراء، غير أنها تضيف التعليم كركيزة أساسية لتنمية الأجيال .

ومنحت مديرية التنمية الاجتماعية في الرصيفة 12 بيتا لأسر فقيرة عام 2014، وهذه الوحدات السكنية كائنة في محافظة الزرقاء ضمن المبادرة الملكية”سكن كريم لعيش كريم”. وتوقفت هذه المنح عامي 2015 و 2016، فيما لم تمنح أي سكن منذ بداية العام الحالي حتى كتابة هذه السطور.

وتقول النجار إن عمل الأطفال بات ظاهرة مؤرقة في الرصيفة فهم يتعرضون لصنوف من الإساءة والضغط، وكذلك مخاطر العمل، مقابل مبالغ زهيدة يتتقاضونها أسبوعيا أو شهريا.

وتروي النجار قصصا مأساوية لأسر نخر الجوع في عظامها، وترزح تحت وطأة فقر مدقع.

وحول العمل والبطالة في الرصيفة، فإن مديرية عمل الرصيفة لا تمتلك أرقاما عن حجم البطالة والعملة في الرصيفة، بحسب مديرتها المهندسة تمارا هلسة.

هلسة تؤكد أن المديرية لا تمتلك إمكانيات لحصر أعداد المشتغلين وجنسهم أو أماكن عملهم. وهي لا تعلم عن حجم البطالة إلا من تقدم للمديرية بطلب وظيفة.

 مواطنون يروون معاناتهم مع الفقر

شباب الرصيفة… هل ساهم الواقع المرير بدفعهم إلى براثن التطرف؟

 لطالما كان بعضهم يلهو مع أصدقائه، سهر بالليل مزاح وضحك، أرجيلة ودخان، وذلك إلى مطلع الفجر. هم مجموعة من شباب مدينة الرصيفة تجمعوا على مائدة “الليل” يلهون ويتسامرون؛ ولم يلُح في خواطرهم التدين عوضا عن أن يكون أحدهم في صفوف جبهة النصرة أو تنظيم داعش في سوريا.

آخرون منهم كان تدينهم عاديا للغاية يؤدون الصلاة دون مواظبة عليها، يرتادون المسجد في الجمع ورمضان فحسب، غير أن بعضهم تجذر في نفوسهم بالفعل الانتماء العقدي والديني. ليس هناك رقم دقيق عن عدد الشباب القاطنين في الرصيفة الذين غادروا إلى سوريا والتحقوا بالتنظيمات الجهادية، غير أن كاتب هذه السطور تعرف على نحو 13 أسرة غادر فرد أو اثنين من أفرادها إلى سوريا، وهم من مختلف الطبقات الاجتماعية والمستويات الثقافية.

 كثير من الأمهات والآباء واجمون لا سيما أولئك الذين غادر لهم أبناء ولم يكونوا على مستوى من التدين. لا يستطيعون تحديد اللحظة المفصلية التي حصل التحول فيها في فكر وشخصية أبنائهم حتى دفعهم ذلك إلى الالتحاق بالتنظيمات الجهادية في سوريا لا سيما تنظيمي “داعش والنصرة”.

فأبو بكر (58 عاما) يقطن منطقة القادسية في لواء الرصيفة، لا يعرف من سهل مهمة ابنيه اللذين غادرا إلى سوريا، وكيف بدت الفكرة لديها. إنه محشرج الصوت زائغ العينين، تائه النظرات، منقطع الأنفاس، يجمع رأسه بين كفيه، وهو يروي لنا قصة ولديه.

ابناه علي (20 عاما) وجعفر(17 عاما) التحق الأول بجبهة النصرة والثاني بتنظيم داعش.

اختتفى الأول  في شهر حزيران من عام 2015 والثاني لحقه بعد شهرين. كان علي شابا عاديا، يُصلي كل جمعة وأحيانا في رمضان. تدينه كان محدودا للغاية، وعلاقته بأصدقاء “اللهو والسمر” قوية. في آواخر آذار من عام 2015 طلب من والده مبلغا من المال يريد أن يفتح محلا صغيرا للخضار والفواكه، وهو يقول:”بدي أكون حالي وأحسن وضعي”.

بالفعل تم له ما أراد، عمل بمحله شهرين. ثم اقترح على والده السفر إلى تركيا من أجل “فتح مجالات أخرى للتجارة”، وافق الوالد ومنحه مبلغا من المال. أخذ علي المال وكان هذا آخر لقاء بوالده. اختفى بعدها دون أي علم للأب بمكان ولده.

أبلّغ الوالد الأجهزة الأمنية لكنهم قالوا إنهم لا يعلمون عنه شيئا. ملأ الأسى قلب الوالد أظلمت الدنيا بوجهه فأين ييمم وجهه! طرق أبواب بيوت أصدقاء ولده بابا بابا لعل خبرا عند أحدهم لكن دون جدوى. أخبرته الأجهزة الأمنية أن ولده لم يغادر البلاد ولم يسافر إلى تركيا، في شهر آب فقد الوالد ابنه الصغير جعفر فقد اختفى فجأة ودون سابق إنذار.

هذا المشهد تكرر عند عدد من الأسر التي التقياناها في مدينة الرصيفة.

أبو جودت (66 عاما) يرمي بالمسؤولية عن مغادرة ولده محمد (25 عاما)  إلى سوريا وانضمامه إلى  جبهة النصرة على الحكومة. ويتساءل: احنا كيف بدنا نراقب تحركات ولادنا! وهل احنا بنقدر نراقب الحدود! مين فتح الحدود وخلاهم يطلعوا وما في نملة بتدخل وبتخرج من الحدود إلا وهي مراقبة، بحسب تعبيره.

محمد يقطن مخيم حطين في الرصيفة وكان يعمل في الباطون(قصير- القصارة)، “ولما يشتغل بجيب مصاري ولما ما يشتغل ما في مصاري”، هكذا يقول الحاج جودت.

لا يخفي خالد (32 عاما) وهو شقيق محمد استغرابه من انضمام أخيه إلى جبهة النصرة وهو الشاب البسيط فقد خرج من المدرسة بعد الصف التاسع، يدخن ويشرب الأرجيلة وحليق اللحية. عمل في عدة مجالات وهو يصلي الجمعة فقط ، وليس كل أسبوع.

أسرة أبو بكر وأبو جودت عرفت عن مكان وجود أبنائها منهم. فقد اتصلوا بآبائهم هاتفيا بعد مدة من مغادرتهم.

أبو بكر يروي تفاصيل الاتصال وقلبه يعتصر ألما ودموعه لا تفارق عيناه، خفّ سمعه وبدا هزيلا مكسور القلب على ولديه، والأسرة جميعها غارقة بالهموم والأحزان، وذات مساء رنّ هاتف أبو بكر. إنه رقم من خارج البلاد وبالفعل كان عليا. يقول لأبيه بصوت مضطرب :”يابا أنا بسوريا وانضميت لجبهة النصرة سلم على أمي وإخواني وأنا بخير، وأنا بدي أجاهد في سبيل الله، يلا السلام عليكم”. سألته “وين اخوك جعفر؟”، فأجاب “انضم لداعش”.

الوجوم يخيم على وجه الحاجة الستينية هيام الطوباسي. يداها ترتجفان عيناها اغرورقتا بالدموع تشهق بعمق أسفا على فراق ابنها باسم ملوح فقد غادر إلى سوريا عام 2015 وكان عمره آنذاك 30 عاما، انضم لتنظيم داعش وقتل العام المضي في قتال احتدم مع تنظيم جبهة النصرة.

باسم متزوج منذ عام 2010 وله طفلتان. تسنيم وعمرها الآن 5 أعوام وبيسان 3 أعوام. الطفلتان ووالدتهما يتنقلون بين بيتي الجدين أسبوع هنا وأسبوع هناك. تدرك تسنيم أن أباها قد مات، سألتها “وين بابا يا تسنيم؟ فردت بعفوية، بابا في الجنة. أما بيسان ووالدتها فكان صمتهما أبلغ.  

بسام (25 عاما) شقيق باسم يقول إن أخاه كان متدينا يميل إلى النهج السلفي، لحيته ليست كثة، يلبس البنطال دائما، لديه بعض الأفكار المتزمة ويأخذ موقفا حادا من الاختلاط والسلام على المرأة الأجنبية، لا يُدخن، ويحفظ خمسة عشر جزءا من القرآن الكريم. درس باسم في جامعة آل البيت ويحمل شهادة البكالوريوس في الفيزياء.

أبو مجاهد (40 عاما) إمام مسجد كان يُصلي فيه باسم. يقول إن هذا الشاب تأثر بأحاديث نبوية تتحدث عن الجهاد في الشام، وأخرى تتحدث عن “ملحمة دابق والأعماق”. كان يرى أن الجهاد الحقيقي قد حان ويكثر من استخدام كلمة “النفير في سبيل الله”.

السوشيال ميديا كانت الوسيلة لاطّلاع باسم على أفكار تنظيم داعش، غادر إلى سوريا وهو يعتقد أنه ذاهب لقتال الكفار، ولم يكن يعلم أن سوريا مصيدة الشباب ووحل يغرق فيه كل من دخله، يقول أبو مجاهد.

خرج باسم من المنزل يوم أن عزم الذهاب إلى سوريا دون أن يخبر أحدا ولا حتى زوجته. تفاجأت الأسرة بغيابه، بحثت عنه في كل مكان، تلمست لعل خبرا ما عند أصدقائه ولكن دون جدوى. بعدها بعشرة أيام اتصل بأبيه السبعيني يخبره بأنه وصل سوريا “للجهاد في سبيل الله”. بعد هذا الاتصال بشهرين مات الوالد كمدا على ولده.

 تنظر الأسرة إلى ولدها على أنه شهيد، وحميته الدينية دفعته للالتحاق في صفوف الجهاديين، غير أنه لم يكن يعلم أن هذه الفئة “تنظيم داعش وجبهة النصرة” ليسوا أهلا للانضمام إليهم وليسوا هم المقصودون بالأحاديث النبوية .

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *