السلط: مدينة التُراث الحيّ

Posted by

تقرير دانا المصري – معهد الإعلام الأردني

أُدرجت مدينة السلط اليوم الموافق 27\7\2021 على قائمة التراث العالميّ، لِتُصبح بذلك اول موقع حضري في الأردن يتم إدارجه على قائمة التُراث العالمي، وسادس المواقع الأردنيّة المُدرجة ضمن قائمة منظمة الأُمم المُتحدة للتربية والعلم والثقافة ( اليونيسكو)، فما هي أهمية مدينة السلط؟، وما الذي اهّلها لتكون ضمن قائمة المواقع الثقافية لليونيسكو؟ وما هي الفرص الكامنة؟  وما هي التحديات المترتبة على هذا القرار؟

مدينة السلط، هي إحدى المُدن الأردنية التي تقع على بُعد 28 كم إلى الغرب من عمّان، وهي مركز مُحافظة البلقاء، يبلغ ارتفاع أقصى نقطة في المدينة 1096م عن مستوى سطح البحر، وتقع فلكيّاً على دائرة عرض 32.2 درجة شمالاً، وخط طول 35/40  درجة شرقاً. ويُقدّر عدد سُكانها  بحوالي 113071 ألف نسمة.

بالنسبة لأهمية مدينة السلط فسيتم ذكر أهمية مدينة السلط لاحقاً وبالتفصيل لكن بالمجمل يُلخّص مُنسّق ومُعد ملف ترشّح مدينة السلط لدى اليونيسكو دكتور هندسة العمارة رامي الضاهر، أهمية مدينة السلط بأنها لا تكمن القيمة التراثية لمدينة السلط فقط بالمباني القديمة من الفترات العثمانية وفترة بداية الانتداب، ولكن ايضاً تكمن أهميتها من الفراغات والفضاءات العامة، والسياق الحضري، والأدراج والممرات وعلاقتها مع المباني، بالإضافة للناحية الأخرى وهي الرفاه الاجتماعي الحضري في المدينة وعلاقة السكان ببعضهم وتكافلهم فيما بينهم. هذا كُله جعل من العلاقة بين التُراث المادي وغير المادي في مدينة السلط علاقة ممُيزة  وقوية جدّاً تمثلت بإعلانها مدينة للتسامح والضيافة الحضرية.

مخطط زمني يوضّح أبرز المراحل التي مر بها ملف مدينة السلط قبل الترشّح لقائمة التراث العالمي.

تُعد مواضيع التُراث من المواضيع الشائكة والتي لها أكثر من بُعد، بحيث لا يُمكننا الحديث عن موضوع وربطها بمُسببات معينة وتجاهل غيرها، إذ يعتقد البعض أن التُراث خصوصاً عند ربطه بمكان ما، على أنه معالم ماديّة ملموسة في ذلك المكان، لذا وحتى نزيل اللبس، سيتناول التقرير موضوع التراث  بشقيه التراث الملموس، والتراث غيرالملموس، وكيف تأثرا ببعضهما وكوّنا المشهد الحضاريّ الثقافيّ الحالي لمدينة السلط الذي أهّلها لِتُدرَج على قائمة التراث العالميّ، والأبعاد الاقتصاديّة لتطورات هذا المشهد، كما سيتناول التقرير الجانب القانونيّ في التعامل مع هذا التُراث لما ينطوي عليه من أهمية.

ما المقصود بالتُراث؟

يُقسم التراث إلى عدة أقسام لأغراض معينة حتى يسهل التعامل معه وفق أسس وضوابط مُحددة، وتم تعريفه بحسب منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة ( اليونيسكو) على أنه: الآثار من الأعمال المعماريّة، والنحت على المباني، والنقوش والكهوف، بالإضافة لمجموعات المباني سواء أكانت منعزلة أو متّصلة والتي تمتلك قيمة لعماراتها أو تناسقها أو اندماجها في منظر طبيعيّ مُعين، بالإضافة للمواقع التي من عمل الإنسان، أو الأعمال المشتركة بين الإنسان والطبيعة، بما فيها مناطق المواقع الأثرية ذات القيمة العالميّة من وجهة نظر العلم أو التاريخ أو الفن.

أمّا قانون حماية التراث العمرانيّ والحضريّ فهو أي موقع أو مبنى ذو قيمة تراثية بناءً على معايير محددة وتمت إقامته بعد سنة 1750م وبما لا يتعارض مع قانون الآثار النافذ المفعول رقم(21) لسنة 1988.

وبالحديث عن التراث، فينقسم إلى شقّين: الملموس وغير الملموس، أمّا التراث الملموس فيقول المهندس المعماري إيهاب عمّارين مُدير متحف الاردن، بأنّ مدينة السلط من أهم المُدن التي لا خلاف على أن لها قيمة تُراثية، وعند الحديث عن القيمة التراثيّة لابدّ لنا من تعريفها، فما المقصود بالقيمة التراثيّة؟ وكيف نستطيع الحُكم والتمييز بين الشيء التُراثي والشيء غير التراثيّ؟

فحتى يكون أيّ موقع أو مدينة أو مبنى تُراثيّ لا بدّ من أن تتحقق فيه مجموعة من الشُروط والمعايير، وهذه المعايير موجودة بشكل قانوني على شكل قانون( قانون حماية التراث العمراني والحضري لعام 2005) بالأردن، بالإضافة لكافة التشريعات الموجودة والمعتمدة والمعنية بالشأن التراثي على مستوى العالم.

فالقيمة الأولى لاعتماد التُراث هي القيمة الزمنية، والتي تعني كل ما كانت العناصر او المكونات أقدم كلما زادت القيمة التُراثية، وتعتبر هذه القيمة عامة، حيث يصعب بالإستناد فقط على القيمة الزمنية اعتماد المُدن التراثية فلا تكفي وحدها، ولا بد من ان تجتمع معها قيم أخرى، حتى تُشكل منظومة نستطيع من خلالها إصدار الحُكم التراثي بحق مبنى او مدينة.

 القيمة الثانية ذات الأهمية هي القيمة الفنّية، وتعني القيمة التي لها علاقة بالعمارة، فالعمارة منظومة فنية باعتبار ان لها ابعاد وأنماط معينة من ( الفتحات، الواجهات، الارتفاعات، الأبواب، والفضاءات الحضرية) حيث تعتبر هذه العناصر هي الحاضنة البصرية والمادية التي يعيش فيها الإنسان لممارسة نشاطاته، ونعني بالحاضنة هنا طريقة تأثر الافراد بنمط معماري مُعيّن، وبنفس الوقت تأثر هذا النمط بالأفراد الذين قاموا ببناءه او تصميمه.

القيمة الثالثة هي مجموعة القيم الاجتماعية، الاقتصادية، والبيئية. ونقصد بالقيمة الاجتماعية على سبيل المثال مضافة عشائرية معينة، حيث لابد من ان يحصل فيها اجتمعات عشائرية او صدر منها قرار معين أثّر على مستقبل المنطقة او تخطيطها.

وكذلك القيمة البيئية، اذا اردنا معرفة كيف القيمة البيئية تعكس القيمة التراثية لمبنى ما فلننظر إلى نمط عمران القُرى، كيف كان يستجيب للظروف البيئية، فمدخلها يكون من جهة الشرق لتجنب الرياح الغربية، هذا عدا عن مواد البناء المستخلص بالكامل من بيئة أهل القرى في الماضي.

القيمة الرابعة هي القيمة الرمزية، فالقيمة الرمزية هي ارتباط مناطق او مباني او طُرُق بحدث مُعيّن، فعلى سبيل المثال هناك مبنى مُعين لا تنطبق عليه معايير القيمة الفنية ولا تنطبق عليه ايضا معايير القيمة الاجتماعية الاقتصادية البيئة، لكن حصل بها حدث مهم وليس شرط ان تكون مبنى فقد تكون ساحة مُعينّة، مثل ساحة العين في مدينة السلط، ساحة العين في مدينة السلط هي ( فضاء) ليس بها مباني وقد اكتسبت ساحة العين أهميتها لان لها قيمة رمزية من تجمّع الافراد فيها حول عيون الماء في الماضي، وأيضاً تجمّعهم لممارسة الألعاب الشعبية في وقتنا الحاضر.

القيم الأربعة السابقة قد تكون موجودة كلها أو جزء منها، لكن في بعض الأحيان تكون القيمة الواحدة من القيم السابقة لا تكفي، حيث نعتمد في هذه الحالة على أثر القيمة الواحدة وقد يكون الأثر كبيراً او صغيراً لكن بالنهاية يخضع هذا الأثر للتقييم من قِبَل خُبراء مُختصيّن.

وبناءً على ما سبق وبالرجوع لمدينة السلط فإن جميع القيم السابقة تتوفّر في مدينة السلط وذلك بحسب عمارين، ويُضيف  انه وبالرغم من توافر جميع القيم الأربعة التي تجعل من مدينة السلط مدينة تُراثية بإمتياز إلّا انّ احد الأمور الموجودة الآن بشكل مُلفت ومتميّز وأخذت بعدا قويّاً في تصنيف مدينة السلط هي القيمة المعمارية في وسط المدينة، والمتمثلة بالعديد من العمائر المتميزة في مدينة السلط، حيث بلغت أعداد المباني التُراثية 657 مبنى وذلك بحسب دراسة أجرتها الجمعية العلمية الملكية.

كيف تكونت الصورة المعمارية لمدينة السلط؟ نتجت الصورة المعمارية الحالية في مدينة السلط نتيجة تأثرها بالعديد من العوامل حولها، لعل أهما العوامل الانسانية والطبيعية، وبالحديث عن العوامل الطبيعية فيقول عمارين أنّ مدينة السلط مدينة جبلية ذات طبوغرافية مميزة متمثلة بالتدرج والميلان، فالمدينة كلها مكونة من مجموعة الجبال والأودية، لذا فإن هذا البُعد الطبيعي او التشكيل الطبيعي للمنطقة كان له دور كبير في تشكيل البيئة المعمارية، فالبيئة المعمارية في السلط بُنيت على منظومة بيئة طبيعية، أي أنَّ العمارة هنا هي من تأثرّت بتشكيلات المدينة الطبيعية التي رسمت الهوية والشخصية العمرانية للمدينة بأكملها، ولم نذكر هنا الهوية المعمارية حيث استخدمنا الهوية العمرانية، فالمعمارية على مستوى مبنى، اما العمرانية على مستوى النسيج العمراني الحضري بأكمله بما تحويه من مباني وساحات وطُرق وأدراج.

أما البُعد الثاني وهو البُعد الإنساني فيُقسم إلى قسمين الاول كيف تأثر سُكّان المدينة بالطبيعة من حولهم، والثاني كيف تأثرت العمارة بسُكّان المدينة. أما بالنسبة لتأثر سُكان المدينة بالطبيعة من حولهم فبالأصل مدينة السلط تكونت نتيجة الهجرات المتتالية منذ قديم الزمن.

تقول الدكتورة ميساء الشوملي، من قسم هندسة العمارة في جامعة البلقاء التطبيقية، لا يُمكننا النظر إلى تاريخ مدينة ما من حقبة واحدة بمعزل عن الحِقب الأخرى، فمدينة السلط ظهرت فيها الحضارات منذ أيام الفراعنة، كما ظهرت فيها الحضارات الرومانية واليونانية والاغريقية.

ويؤكد على ذلك المهندس أيمن ابو جلمه، حيث قال على اعتبار أنَّ تاريخ مدينة السلط ينقسم إلى قديم وحديث، فقد بدأ تاريخ مدينة السلط القديم من منطقة وادي شُعيب وذلك بدلالة التنقيبات الأثرية التي قامت بها هيئة الآثار العامة، حيث  وجدوا الكثير من المواقع الأثرية التي تعود لعصور وحضارات قديمة، بدايةً بالعصر الحجري، ثم البرونزي الوسيط، فقد تم الكشف عن سور أثري يعود للعصر البرونزي الوسيط بجانب مدرسة السلط الثانوية في تل الجادور، أمّا في العصر الروماني والبيزنطي فوجدوا بقايا لمعصرة بيزنطية في وادي السلط، بالإضافة لمقبرة عائلة ملكية رومانية، والتي وجدوها بجانب المعصرة، كما وصل الرومان لوسط المدينة حاليا وقد تمثّل أثر ذلك بالحمامات الرومانية في المنطقة المقابلة والمشرفة على ساحة العين، وذلك لوجود عيون مياه في تلك المنطقة.

ومن العصر البرونزي يذكر المؤرّخ الدكتور إبراهيم المصري بعض مشاهد الهجرات التي أسهمت بشكل كبير جداً وأثّرت في التراث العمراني لمدينة السلط، حيث هاجرت أعداد كبيرة من جنوب البحر الميت والشونة إلى مدينة السلط وذلك لصعوبة الحياة في تلك المناطق ولعدم توافر مصادر مياه فيها، لذا عبروا مدينة السلط عبر وادي شُعيب، وكان أول مكان يجدوا فيه الماء هو ساحة العين التي سميت بهذا الاسم نسبة إلى عيون الماء التي كانت فيها، ومن هنا نجد ان المياه بقيت متواجدة بوفرة في منطقة ساحة العين منذ العصر الروماني، حيث كانت تزخر مدينة السلط بمصادر المياه التي رافقها الطقس المعتدل بالإضافة إلى خصوبة التُربة، وساعدت هذه العوامل مجتمعة على الهجرات السكانية إلى مدينة السلط من مُدن فلسطين والشام.

فبالنسبة للهجرات من المُدن الفلسطينية يقول الدكتور إبراهيم لأنهم وجدوا في مدينة السلط المكان الآمن لتوسيع تجارتهم عبر الشرق، خاصة أن الغالبية العُظمى من المُهاجرين كانوا من أماكن تفتقر إلى الأمن ففي عام 1804م بعد وفاة أحمد باشا الجزّار تسلّم وُلاة ظالمين مقاليد الحُكم فكانوا سبباً في هجرة أعداد كبيرة إلى مدينة السلط. وأيضاً في عام 1816م الفتنة التي حصلت في نابلس كانت سبباً لهجرة أهالي مدينة نابلس إلى السلط، فمدينة السلط شكلّت أكبر تجمّع سُكّاني في تاريخ الدولة الاردنية بسبب الهجرات التي توالت على المدينة.

والآن بعد التعرف بشكل سريع على ابرز الهجرات والحضارات التي تواجدت في مدينة السلط، نجد ان معظمها جاء لتوافر جميع العناصر الطبيعية التي تُعزز مفهوم الأمن عبر العصور والمتمثل بوفرة المصادر المائية الي يصاحبها توافر تربة خصبة بوجود مناخ معتدل، مما ساعد الحضارات السابقة على ترسيخ مقومات وجودهم.

بناءً على ما سبق نكون قد عرفنا سبب إعلان مدينة السلط ” مدينة التسامح، وأصول الضيافة الحضرية” حيث تبيّن انه وعلى غرار مدن ومحافظات الأردن لم تُقسّم المدينة على أية أُسس قبلية او طائفية، كما أنّ طريقة تصميم المباني والمنازل المتلاصقة يدل على انفتاح سكان المدينة على بعضهم وترابطهم مشكلين لوحة فسيفسائية من الثقافات والعادات والتقاليد.

أشرنا في البداية إلى ان العمران تأثر بطبيعة المنطقة الجبلية، أمّا المؤثر الثاني فهو المؤثر الإنساني، ومن هنا ننتقل لِنُكمل كيف تأثر الأفراد بطبيعة مدينة السلط وما أثر ذلك في الطبيعة العمرانية للمدينة؟ حيث يقول الدكتور إبراهيم المصري إنّ إنسان مدينة السلط استطاع تطوير مهارات وقدرات خاصة في أساليب البناء باستخدام أدوات محلية من الحجر الذي تميّز بلونه الأصفر، وبرع الحرفيين في هذه المدينة بتشكيل هذا الحجر وتوظيفه لإنجاز مباني صمدت لأكثر من قرن من الزمن، ولعلّ الدليل الأبرز على تلك المهنية والحرفية في مباني مدينة السلط، الزلزال الذي ضرب المدينة في عام1927م، حيث لم يكن هناك أي أضرار تُذكر قد لحقت بمباني المدينة في ذلك الحين.

النظام الإنشائي للعمران في مدينة السلط

أمّا بالنسبة للحجر فتتعدد الروايات حول ما إذ كان الحجر الأصفر بالأصل من مدينة السلط او من مدينة نابلس، وهنا يؤكد المصري أنّ الحجر الأصفر تم إستخراجه من مقالع في مدينة السلط ما زالت موجودة إلى يومنا هذا، ويضيف ابو جلمه انه تم استخدامه في عمليات التجديد والتطوير منذ فترات قريبة وحتى إن لم يكن فيها كُلها، فبعد البحث وجدوا الحجر الأصفر المماثل له في الخصائص والمواصفات في مدينة معان، واستعانوا به لبناء الواجهات الجديدة في المدينة.

وتقول الشوملي إن السبب الرئيسي لاستخدام الحجر الأصفر في البناء عدا عن توافره بكثرة إلى أنه كان ايضاً سهل التطويع والتشكيل، فتميّز العمران في مدينة السلط بالأبواب والشبابيك ذات الأقواس المُدببة، هذا بالإضافة إلى سقوفها ذات العُقود المتقاطعة، فقديما لم تكن تتوافر مواد البناء المتوافرة حاليّاً، لذا كانوا يقوموا ببناء جدران حاملة ثم الأسقف القببية المتقاطعة، ولِثقل الأسقف كان يتطلب الامر جدران حاملة سميكة فقد تراوح سُمكها بين 80 سم – 1 متر، وذلك لعدم وجود دعامات في المنتصف كما هو السائد في وقتنا الحالي.

ولعل أحد التحديّات التي شكلت عناصر شخصية العمران في مدينة السلط، والتي تدل أيضاً على طريقة تفاعل سكان المدينة مع الطبيعة الطبوغرافية، والطريقة التي أثرّت بها الطبيعة الطبوغرافية على النسيج العمراني، حيث نجد ان الأبنية بُنيت على مصاطب، وربطوا حركة التنقّل بين الأبنية عن طريق شبكة من الأدراج أو السلالم، وكل درج فيها يقود لبسطة أو استراحة، ويأتي هذا المثال كدليل حي على استجابة وتفاعل سكان المدينة آنذاك مع الطبيعة الجبلية للمدينة.

مخطط زمني يوضّح أبرز مراحل التطور الحضري التي شهدتها المدينة.

مدينة التُراث الحي

فهي مدينة قديمة حديثة في آن واحد، لم تكن مثل بعض المُدن التي ظهرت فيها الحياة لحقبة معينة واندثرت ثم عادت للظهور في وقت لاحق، فأناس مدينة السلط متواجدين فيها منذ مئات السنين، فقد كبرت المدينة مع الهجرات، لكن بقيت العائلات الموجودة فيها عبر التاريخ.

كيف يمكننا الموازنة بين الحاجة للتجديد الحضري والتراث العمراني والحضاري للمدينة؟

كيف يُمكننا الحفاظ على الإرث الذي يُشكّل موروث للأفراد، ويُشكّل جزء من ذاكرة المدينة، وكيف يُمكننا الموازنة بين الإرث الحضاري وبين الحاجة للتوسّع؟ فالمدينة تحتاج لمرافق وخدمات تتناسب مع الإحتياج الوقت الراهن.

يُجيب عمارين بأن خلق التوازن بين هذين العنصرين يحتاج لجهد كبير، خاصة بالنسبة لمن يقومون بالتصميم بشقّيه التصميم الحضري والتصميم العُمراني، فالتصميم الحضري: تصميم الأحياء والمناطق والشوارع والمُدُن، أما التصميم العُمراني: فهو تصميم مباني تتوافر فيها متطلبات الحداثة ومتطلبات العصر لكنها بنفس الوقت ليست غريبة على جسم المدينة، أي ليست جسم غريب تمت إضافته لنسيج تُراثي يمتلك قيمة عالية.

ويُكمل عمارين بأنه لا يُمكن إحداث تدخلات ببساطة على المناطق ذات التُراث المعماري، وبالتالي فلا ينحصر عمل المُخططين على التخطيط بالإعتماد على العناصر الفيزيائية وحدها، فيتضمن عملهم دراسة سيكولوجية واجتماعية لطبيعة أفراد المنطقة وذلك حتى يتمكنوا من تصميم مُخطط توسّع سُكاني، أو منطقة سُكانيّة جديدة.

فالتُراث تنبع أهميته من القيم التي يختزنها، وأحد القيم التي يختزنها التُراث هي القيمة المعمارية التي نشاهدها بصريّاً، ويوجد جزء منها معماري اجتماعي ويُسمى وظيفي، فطريقة تصميم المباني ومداخلها ونوافذها هي قضية معمارية اجتماعية، ففي الوقت التي تنُفَّذ فيه تصاميم معمارية مُعينّة تكون تستجيب للحاجات الإجتماعية.

ويضيف عمارين أنّه حتى نستطيع التدخّل في النسيج الحضاري لمنطقة ما، هناك مسارين: الأول هو المناطق الجديدة الخارجية ( خارج النسيج الحضري) كأن نقول خارج (وسط مدينة السلط) لكنها مرتبطة بها مثل المناطق على حواف المدينة، والمسار الثاني هو المناطق التي داخل النسيج، بحيث تكون هناك مناطق فارغة، او مناطق لسبب او لآخر هُدمت وهناك مباني جديدة أخرى لتحل محلها، ومن هنا فإن التعامل مع المناطق في وسط المدينة يختلف عن التعامل مع المناطق خارجها.

البناء وسط المدينة له معايير وأسس للتعامل معها، فليس المطلوب ان نستنسخ المباني التراثية الموجودة بالأصل في الوسط التراثي ونقوم ببناءها مرة أخرى فهذا خداع، وبالطبع هناك فرق بين المباني التي بُنيت في القرن التاسع عشر والمباني التي بُنيت بالقرن العشرين على سبيل المثال، فالمطلوب هنا بناء المباني الحديثة في الوسط التراثي شريطة احترامها للمباني القديمة، فكيف يكون هذا الإحترام؟ أولاً ببساطة التصميم وحياديته فلا يكون مُبالغ في حدثاته بحيث يظهر فرق صارخ بين البناء، اما النقطة الثانية فهي ان تحترم المباني الحديثة في واجهاتها؛ التفاصيل والنقوش في واجهات المباني التراثية لمدينة السلط فلا تقلدها بالكامل لكن لا ان تخلوا منها بالكامل أيضاً.

وبالمُجمل يؤكد عمارين على أنّ فكرة التوسع لا تتعارض مع الحفاظ على القيمة التُراثية، بل على العكس قد يكون مُعززّ للتراث من خلال إبراز قيمته التراثية أكثر.

خارطة الطريق نحو الإستقطاب السياحي لم تكن الحركة السياحية في مدينة السلط بالأمر المُستغرب، فهي ليست بالظاهرة الحديثة لكنها ليست بالقديمة كذلك الأمر، فبحسب الدكتور إبراهيم المصري مدير السياحة الأسبق في مدينة السلط، إن التنبّه للسياحة في مدينة السلط جاء بعد قدوم الوكالة اليابانية للتعاون الدولية إلى مدينة السلط وذلك في عام 2000م، حيث قام المشروع ضمن منحة جاءت لتطوير وسط المدينة بعمل ترميم للتراث المعماري في مدينة السلط، فقاموا بترميم بيت أبو جابر الذي أصبح حالياً متحف السلط التاريخي لما يعكسه من تاريخ مدينة السلط من منتصف القرن التاسع عشر إلى بدايات القرن العشرين، فهذه الفترة أيضاً كانت العصر الذهبي نتيجة للازدهار السُكّاني والتجاري، والتعليمي في ذلك الوقت.

وكنتيجة طبيعية لازدياد عدد السُياح، وازدياد الحاجة لبعض الخدمات التي يحتاجها السُيّاح من طعام وشراب وغيرها، بدأت الاستثمارات في المباني التراثية في مدينة السلط منذ 2010 تقريباً بعد ان باتت ملامح السياحة في المدينة تتضح تدريجيّاً، وحتى يتم تنظيم عمل الاستثمارات لتكون بشكل مُخطط ومدروس كان لا بُد من تنظيم هذه الاستثمارات والمنشآت.

عدد المنشآت التي تقدّم خدمات لزوار مدينة السلط

ويقول المهندس ابو جلمه، لقد تم العمل على تنظيم الجهود عن طريق توقيع مديرية السياحة، ومؤسسة إعمار السلط، وبلدية السلط الكُبرى، على مذكرّة تفاهم يتم بموجبها تقسيم العمل على ثلاثة لجان ادارية، اللجنة الأولى لإدارة المتحف الكبير ( وسط مدينة السلط) من الناحية السياحية، ويقوم على هذه اللجنة مؤسسة إعمار السلط ومديرية السياحة.

أما اللجنة الثانية المسؤولة عن ادارة وسط المدينة من الناحية التنظيمية والمعمارية عن طريق الاحكام التنظيمية وتقوم على هذه اللجنة البلدية ( وحدة إدارة مشاريع تطوير وسط المدينة).

اللجنة الثالثة المسؤولة عن الإدارة المجتمعية، وهي ايضا من الناحية السياحية، ونقصد بها تنظيم انشطة المجتمع المحلي والخدمات التي يقدمونها للسُيّاح، وتقوم بهذه المهمة مؤسسة إعمار السلط بإعتبارها مؤسسة مجتمع مدني معنية بالتطوير والتنمية المجتمعية.

وفيما يتعلق بالمجتمع المحلي، فيقول خلدون خريسات مدير مؤسسة إعمار السلط، أنّه وبالرغم من أن الملامح السياحية لم تتضح بشكل كافي وكل ماهو موجود حاليّاً هو تجهيزات وتحضيرات لدعم البنية التحتية السياحية في مدينة السلط، ومع ذلك فقد كان هناك فئة من المجتمع المحلي ممن عارضوا مشاريع الإستقطاب السياحية، خوفاً من تغلغل السياحة بما يفرض واقع اقتصادي جديد ليصبح الهوية التجارية هي السائدة وبذلك تُدفن الهوية التراثية للمدينة.

ويُضيف الخريسات ان ذلك دعا لعمل برامج توعوية لُسكان المجتمع المحلّي بأهمية التراث الحضاري للمدينة، وبأهمية الحفاظ على عادات وتقاليد ومهن المدينة القديمة، لانها هي من تُشكّل الهوية الحضارية للمدينة، وهي العنصر الرئيسي الجاذب للسياحة في مدينة السلط، حيث انطلقت نتيجة لذلك عدة مشاريع في المدينة ممن يقدمون فعاليات سياحية محليّة، كبيوت الضيافة، وتعليم الألعاب الشعبية كلعبة المنقلة، وإلباس السُيّاح اللباس التقليدي لمدينة السلط وعمل بعض الفعاليات التي تُقام في مناسبات مدينة السلط.

تلك المشاريع تُعتبر إلى حد كبير دليل على تفاعل سُكان المجتمع المحلي بطريقة إيجابية مع المشروع السياحي في المدينة، لكن لا يُمكن قياس تبعات هذه المشاريع في مُدة قصيرة.

المباني التُراثية والاستثمارات السياحية

قبل ست سنوات تقريباً بدأت مشاريع الاستقطاب السياحي تظهر بشكل ملحوظ في المدينة، فأصبح الزائر لمدينة السلط أمام خيارات مُتعددة من المطاعم والمقاهي وحتى بيوت الضيافة وغيرها العديد من مشاريع التجارب السياحية، المُلفت انها جميعها في الوسط التراثي لمدينة السلط، داخل المنازل التراثية بالتحديد، والآن مع قرار إعلان المدينة ضمن قائمة التُراث العالمي، وما سيترتب على هذا الإعلان من نشاط سياحي، فما هي الفُرَص الكامنة لأصحاب هذه البيوت او أصحاب هذه المشاريع؟.

يقول المهندس خالد الخشمان رئيس بلدية السلط الأسبق، انهم أقرّوا أحكام تنظيمية خاصة لتنظيم الوسط التاريخي للمدينة، حيث تشمل هذه الأحكام موضوع المهن المُراد ترخيصها في هذه المباني، بالإضافة لإعدادهم دليل مُعتمد لترميم المنازل التُراثية وفق أُسس وقوانين محددة، مع اشتراط ترميم اي مبنى تراثي بالحصول على تصريح ترميم وبإشراف ومتابعة مُباشِرة من قِبَل البلدية. فلا يتم منح تصريح ترميم اذا كانت غايات استخدام المبنى لا تتوافق مع الاحكام التنظيمية بالمباني التُراثية.

ويُضيف مدير سياحة البلقاء أن جزء من مهامهم تسهيل عمل المشاريع السياحية فعلى سبيل المثال حتى يتم منح ترخيص لبيت ضيافة يقوم الشخص بتقديم طلب اعتماد كبيت ضيافة لدى مديرية السياحة، حيث تقوم مديرية السياحة بدورها بالكشف على هذا البيت، والتأكد من مطابقته للشروط والمواصفات مثل ان يكون البيت تُراثي، ويتوفر به ملحقات قادرة على استيعاب اعداد كافية من السُيّاح وغيرها العديد من الشروط … وإن كانت متوافقة، يتم إرسال الطلب لبلدية السلط، حتى تقوم هي بدورها بالكشف والإعتماد في حال تطابقت الشروط، مع الإعفاء الكامل من الضرائب والتراخيص والرسوم.

أما السيدة فاطمة العمايرة صاحبة أحد مشاريع بيوت الضيافة في مدينة السلط، فتقول إنّ جميع الأوراق والوثائق فيما يتعلق بإعتماد بيتها كبيت ضيافة كانت مُيّسرة، ما كان عليها سوى استقبال السُيّاح في بيتها وتقديم الضيافة لهم، وخاصة أن منزلها يقع ضمن المسار السياحي المُعتمد ضمن المسارات السياحية الثلاثة في مدينة السلط.

وبالنسبة لعبدالله عربيات مُستثمر في أحد البيوت التُراثية، فإن الوضع كان مُختلف تماماً حيث وجد صعوبة بالغة في أخذ التصاريح وذلك لعدة أسباب: اولها أنَّ استثماره جاء في أحد البيوت التُراثية البالغة 140سنة، حيث طُلِبَ منه إذن أشغال عامة، وكون المنزل 140 سنة فلا وجود لأُذونات أشغال عامة، مما كلفه جهد إضافي هذا عدا عن تقسم مُلكية المنزل بين 140 وريث، منهم من هو بالأردن ومنهم من هو بالخارج، أما فيما يتعلق بتصريح الترميم فقد واجه صعوبة بالغة أيضاً، فبحسبه كانت بعض الشروط مبالغ فيها، وخاصة ان المنزل الذي استأجره كان بالسابق مسكن لعمال وافدين، فقد كان هناك الكثير من الانتهاكات بحق القيمة التُراثية للمنزل.

الفُرص والتحديّات الكامنة وراء إعلان مدينة السلط على قائمة التُراث العالمي

يقول الدكتور رامي الضاهر إنَّ إدراج مدينة السلط على قائمة التُراث العالمي، واعتبارها أول موقع أُردني حضري يُدرج على هذه القائمة، يعني إعتراف عالمي بأهمية مدينة السلط التُراثية على مستوى العالم، وليس على المستوى المحلي والإقليمي فحسب، وهذه الخطوة مهمة جداً لإعادة تعريف مفهوم التُراث بشكل نقدي في الأردن ككل، فالأردن ليس عبارة عن مواقع أثرية وطبيعية، وإنما مواقع حضرية لا بد لنا من التركيز عليها.

وهذا الإعتراف العالمي بأهمية المدينة حضريّا على مستوى العالم يستدعي الاستعداد وتوقع زيارات وعدد سُيّاح كبير، وهنا يُضيف الضاهر ان البلدية ووحدة إدارة مشاريع التطوير هي من يجب ان تُدير هذا المشهد، ليس مؤسسات وطنية كبيرة من عمّان، الإدارة يجب ان تكون من داخل المدينة. ويؤكد الضاهر أنه  فيما يتعلّق بإعلان مدينة السلط مدينة تراثية فيترتب عليه العديد من المهام، حيث انَّ هناك بالأصل خطة إدارة ضمن ملف الترشح وهذه الخطة يجب تطبيقها، يجب على البلدية ان تبقى مستمرّة باهتمامها بالمدينة وتبدأ بتطبيق السياسات والاستراتيجيات الموجودة بخطة الإدارة، فهناك حوالي 10 سياسات تتفرع منها استراتيجيات مختلفة، ويجب التفكير بهذه الخطط والاستراتيجيات بطريقة جدية، لضمان الحفاظ على هذا التُراث، ولضمان استمرارية تسجيل المدينة على قائمة التراث العالمي.

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *