الأعلى عالميًّا: مهندس لكل 41 أردنيًّا رغم تراجع أعداد المنتسبين الجدد

Posted by

من قبعة المهندس إلى قبعة التوصيل

” الطلب جاهز يا باش مهندس!”، ينادي أحدهم، فيستلم المهندس سليمان أبو عمرو الطلب، يحمله ثم يعدل قبعته، ويضع الطلب في حقيبة كبيرة حافظة للحرارة، ثم ينطلق لتسليمه للزبون الأصلي الذي طلبه عبر تطبيق خدمة توصيل الطعام، وفي طريقه مارًا، يدخل نقابة المهندسين الأردنيين، يلقي التحية ويدفع اشتراكه السنوي، وحين يُلاحظ عليه لباس “كابتن” التوصيل يُسأل من زملائه: ” كيف ممكن نشتغل معك؟”.

 سليمان يعمل منذ عام 2020 في تطبيقات توصيل الركاب والخدمات الطعام، بعد التخرج، لم يجد فرصاً وظيفية ثابتة، واقتصر عمله على مشاريع “مهندس مقيم” التي هي مشاريع موسمية، تعتمد على أصحاب الإسكانات، يقول سليمان: ” الي كسبته منها صار ينادوا أهلي أم المهندس وأبو المهندس”، ذلك بعد أربع سنوات دراسة جامعية في الهندسة المدنية تخصص “طرق وجسور”، واستكمال والماجستير في إدارة المشاريع الهندسية سنة.

يلقي سليمان نظره إلى الأمام، وبضحكة جانبية ساخرة يشرح كيف استغلَ فترة “كورونا” في لبس الكمامة كي لا يتعرف عليه أحد، ومحاولٍ تجنب من يعرفه، ولكن بعد شهور قليلة، أدرك أن العمل في التوصيل أكثر استقرارًا وربحًا من أعمال الهندسة التي مارسها سابقًا، واليوم، لم يعد يشعر بالحرج، بل  يبني شبكة من “كباتن التوصيل”، يوجههم ويشجعهم على العمل معه.

الأعلى عالميًّا: مهندس لكل 41 أردنيًّا رغم تراجع أعداد المنتسبين الجدد

سجلت نقابة المهندسين الأردنيين انخفاضًا في أعداد المنتسبين الجدد خلال  السنوات الثلاث الأخيرة، حيث كان مجموعهم 7277 في عام 2022، بينما كان المجموع 4057 في عام 2024، ورغم ذلك، فإن مهندسي الأردن الأعلى عالميًا مقارنة بعدد السكان، بمعدل مهندس واحد لكل 41 مواطن، وفي هذا تقول مساعدة الأمين العام لنقابة المهندسين سمر الكيلاني:” أصبح هناك توجه لتخصصات أخرى نتيجة لوعي الطلبة مثل تكنولوجيا المعلومات، الجانب التقني وغيرها من التخصصات ذات الطلب بالسوق، فيما النقابة دومًا تصدر نشرات إرشادية توجيهية للتوعية بالتخصصات الراكدة والتخصصات المطلوبة لسوق العمل “.

 وبحسب ما جاء في بيانات تقرير النقابة لعام 2024  فإن التغير في أعداد المهندسين والمهندسات خلال العقد الماضي فقط بلغ حوالي 68٪، وتوضح الكيلاني:” أن هذه الزيادة تأتي لما شهده الأردن خلال العقود الماضية توسعًا كبيرًا في عدد الجامعات الحكومية والخاصة، ما زاد من فرص الالتحاق بكليات الهندسة، كما ساهمت البرامج الدولية والجامعات الخاصة في فتح المجال أمام أعداد أكبر من الطلبة، بجانب المكانة الاجتماعية المرموقة المرتبطة بالإرث الثقافي مما جعلها خيارًا مفضلًا، وغالبًا ما يتبع الأبناء خطى آبائهم أو أقربائهم في دراسة الهندسة، وما ترافق مع ضعف التوجيه المهني المبكر، وقلة البدائل التقنية الجاذبة سابقًا”.

 أكثر من نصف مهندسي الأردن عاطلون عن العمل

أكثر التخصصات الهندسية عددًا من إجمالي المهندسين حتى نهاية 2024 هي الكهرباء والمدني، واللتان يقدر عدد المهندسين في كل منهما على حدة بحوالي ثلاثة أضعاف المعمارية، وضعفين الميكانيكية، ونحو ثمانية أضعاف عدد المهندسين في تخصص الهندسة الكيميائية، وبشكل لافت 41 ضعفًا من المناجم والتعدين، بسبب ندرة فرص العمل في هذا التخصص الهندسي.

بينما أظهرت النشرة الإرشادية الأخيرة لنقابة المهندسين بنسختها الرابعة عشر ركودًا تامًا في كافة تخصصات الهندسة وتخصصاتها الفرعية في مدى حاجة سوق العمل لكل منها، باستثناء تخصصي الذكاء الاصطناعي والأنظمة الذكية، والطاقة المتجددة والمستدامة، حيث تبلغ نسبة العاطلين بين منتسبي النقابة دون المتقاعدين حوالي 54%، وترى الكيلاني أن هذه النسب من البطالة تؤثر في: “تراجع الاستثمارات، وفرص العمل في القطاع الهندسي، وإن محدودية التوظيف في القطاع العام نتج عنها زيادة العرض مقابل الطلب، ما أدى إلى انخفاض الرواتب خصوصًا للمهندسين الجدد، أيضاً قبول المهندسين بفرص عمل ضعيفة أو غير لائقة في ظل الحاجة للتجربة أو العمل، إضافة إلى غياب الامتيازات مثل التأمين الصحي، بدل النقل، والدورات التدريبية خاصة في الشركات الصغيرة أو الناشئة، بالإضافة لهجرة المهندسين مما خلق فجوة في الخبرة داخل السوق المحلي”.

وتوضح عضوة مجلس نقابة المهندسين ليندا الحمود أن العوامل التي تؤدي إلى ارتفاع نسب البطالة في السوق الهندسي هي: ” الفجوة بين مخرجات التعليم واحتياجات السوق، والقبول العشوائي غير المرتبط بحاجة السوق في التخصصات، وتكرار البرامج التقليدية في الجامعات المختلفة دون تطويرها أو تحديثها بما يتماشى مع التقنيات الحديثة، كذلك غياب التدريب العملي الجاد في كثير من الحالات، وضعف فرص العمل في القطاعين العام والخاص، خاصة مع تراجع الاستثمارات في المشاريع الكبرى، وعدم وجود تحفيز كافٍ لريادة الأعمال الهندسية”.

 طلبة الأردن يتجهون للهندسة رغم الفجوة التشغيلية والجندرية

وفي ظل هذه التحديات التشغيلية، ومع اقتراب نتائج الثانوية العامة (التوجيهي) التي تعلن عادة خلال النصف الثاني من شهر يوليو، يؤخذ على الطلبة وذويهم مسؤولية  اختيار التخصص الجامعي المناسب لهم وفق معطيات المعدلات وسياسات القبول الجامعي ومؤشرات سوق العمل وإشباع التخصصات، وبالرغم من نسب البطالة العالية في التخصصات الهندسية إلا أن اليوم يزيد عدد طلبة الهندسة الأردنيين على مقاعد الدراسة عن 42700 طالب وطالبة في الجامعات الأردنية والخارجية، الجزء الأكبر منهم يدرسون الكهربائية والميكانيكية، ويقول عميد كلية الهندسة في جامعة عمان الأهلية بشار الطراونة: “يوجد تخصصات مثل الهندسة المدنية والمعمارية والكهرباء والميكانيك لا ينصح بدراستها، وقامت عدد من الجامعات بتجميد هذه التخصصات بسبب ضعف الإقبال، وجامعات أخرى قامت باستقطاب طلبة غير أردنيين في هذه التخصصات وهذا يحسب لها، كما قامت عدد من الجامعات باستحداث تخصصات جديدة مثل الذكاء الاصطناعي والروبوتات والأنظمة الذكية والعمارة الرقمية، ولكن المطلوب الآن تحديث خطط هذه البرامج بما يتناسب مع التطور التكنولوجي الهائل والتركيز على المهارات والتطبيق العملي والشراكة مع الصناعة”، ويضيف: “من غير العدل تحميل كليات الهندسة المسؤولية الكاملة”.

ولعل  المقطع في أغنية الفنانة صباح – حبيبها أمها “هتبقى مهندسة”، يعكس رغبة الأهل في منح أطفالهم لقب “مهندس/ة” من الصغر، وإن كانت التحديات التشغيلية في الهندسة تمس النساء والرجال، إلا أن هناك فجوة جندرية في دراسة تخصصات العلوم والهندسة حسب ما جاء في تقرير اليونسكو العالمي لرصد التعليم لعام 2025، الذي أشار إلى أن المرأة عالمياً ممثلة تمثيلًا ناقصًا في الهندسة والتدريب التقني والمهارات الرقمية، لا سيما في البلدان منخفضة الدخل، وحتى مع حصولها على تعليم تواجه عوائق في تولي مناصب قيادية.

 وفي الأردن هناك مهندسة مقابل كل 4 مهندسين، مع تفاوت في التوزيع الجندري في التخصصات، وإن نسبة طالبات الهندسة في الجامعات الأردنية من عدد طلبة تخصصات الهندسة هي 38%، وتفسر الحمود أن:” الفجوة الجندرية هي نتاج تراكمات اجتماعية وثقافية عززت صورة أن بعض التخصصات “رجالية” أو أن بيئة العمل فيها غير مناسبة للنساء، خاصة في الميدان الصناعي. أما بالنسبة للهندسة الكيميائية، فهي من التخصصات التي تتطلب العمل في بيئات صناعية قد تكون قاسية أحيانًا، لكن لا يمكن أن تكون هذه التوصية عامة، حيث هناك بعض مجالات العمل مناسبة للمهندسات وتستفيد من مهاراتهن”.

ليست الألقاب … بل المستقبل

وإن كان الوعي المجتمعي ركيزةً للتخفيف من وطأة تكدس المهندسين، إلا أنه لا بد أن يصحبه سياسات على مستوى الدولة، تشمل وزارة التعليم العالي، النقابات المهنية المعنية، ووزارة العمل، للحد من ازدياد الأعداد في القطاع.

ويقول الطراونة: “مؤيد لوضع سقف سنوي لأعداد المقبولين في الاختصاصات الراكدة والمشبعة، ويجب ربط ذلك بحاجات سوق العمل”، ومن جانبها تضيف الحمود: “يجب أن تكون عملية الإرشاد منهجية منذ المرحلة الثانوية، ومن ضمنها تنظيم لقاءات مع مهندسين عاملين في الميدان لنقل الصورة الواقعية للطلبة”.

إعداد: لانا شاهين، طارق العوراني، ناصر طوالبة.

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *