على أطراف قرية الجوزة جنوبي الكرك، يقف المزارع مرتضى الضلاعين في أرضه والمزروعة بأشجار الزيتون التي يزيد عمر بعضها عن 100 عام، يشير إلى إحداها ويقول بأسى: “الزيتون بئن من العطش، موسم ورا موسم بنشفن، كأنوا ما ظل فيهن نفس”.


ربيع قرية جوزة 2025


ربيع قرية جوزة 2020
اختصر الضلاعين شح الأمطار في الموسم الماضي بقوله: “الأرض ما شبعت مطر هالموسم”، ويضيف أن قريته فقدت على مدار سنوات الكثير من النبات والأشجار بسبب تراجع الهطول المطري عاماً بعد عام، حتى الأصناف البعلية المعتمدة على الأمطار تناقصت كالزعتر البري والبابونج، والشيح الذي يستخدم في صنع الجميد، والجعدة التي تعتبر عشبة طبية تستخدم كعلاج للزكام وتهدئة المعدة، والعنب البعلي، كما تراجعت المحاصيل المروية، مثل البندورة والخيار، نتيجة لتغيرات المناخ والتربة.
تتبع قرية الجوزة لمحافظة الكرك، وهي إحدى القرى المعتمدة على الزراعة وتربية المواشي، لكنها تشهد تراجعاً مستمراً في مساحات الأراضي الصالحة للزراعة بسبب الظروف المناخية كتناقص الهطول المطري والجفاف، ما يؤدي أيضاً لتناقص مساحات المراعي التي تؤثر على تربية المواشي، وتشكل القرية نموذجاً لما يشهده الجنوب الأردني من تدهور بيئي ومائي. فقد بلغت كميات الهطول في الموسم الأخير في المناطق الجنوبية الغربية والجنوبية الشرقية من المملكة 108.1 ملم و33.2 ملم على التوالي، ما يعادل 54% و 40% من المعدل السنوي العام للهطول المطري بحسب دائرة الأرصاد العامة، وهذا التراجع يضاف لسنوات طويلة من تناقص الهطول المطري على المملكة.
يقول الخبير في البيئة والتغير المناخي حسين الكسواني: “تتميز قرى الكرك بعدة أنماط مناخية لوجودها قرب وادي الأردن الذي يتميز بجو جاف وحار”.
وأشار الكسواني إلى قرية فقوع الواقعة غرب الكرك، التي تمثل نموذجاً للتغير المناخي في الجنوب حيث يسود فيها النمط الحدي للتربة الاكثر تعرضاً للتصحر.
وأوضح الكسواني أن عوامل التدهور تنقسم لقسمين: عوامل مناخية كارتفاع درجات الحرارة وتذبذبها، واختلاف الموسم المطري بالكم والكيفية، فحصيلة الأمطار تقل لكن كثافتها تزيد في أوقات محددة والنباتات لا تخزن المياه ولا الأرض، فتكون كمية المياه أكبر من قدرتها على الاستيعاب، وبالتالي يحصل الجفاف سريعاً، إضافة لارتفاع درجات الحرارة التي تزيد التبخر.
أما العوامل البشرية فهي لا تقل خطورة، كالتمدد العمراني غير المدروس على حساب الأراضي الزراعية، إضافة للاستخدام المفرط لها من خلال الزراعات غير المدروسة والرعي الجائر، وكذلك مشاريع السدود التي تؤثر على الأنماط الموجودة تحت السد.
وبحسب الخبير في حماية الطبيعة إيهاب عيد، فإن منطقتي فقوع والجوزة تُظهران مؤشرات واضحة على تقدم التصحر، يمكن رصدها بسهولة على الأرض، ومن أبرزها تدهور الغطاء النباتي الطبيعي، وتآكل التربة خصوصاً بعد العواصف المطرية، وازدياد نسبة الأراضي المهجورة بسبب العزوف عن الزراعة البعلية، إلى جانب زحف التربة الجرداء وتراجع إنتاجية المحاصيل، ولفت عيد إلى أن هذه المؤشرات لم تعد مجرد تحذيرات نظرية، بل واقع يومي يعيشه المزارعون.
وأضاف عيد أن شح الأمطار وتغير نمطها المناخي في السنوات الأخيرة، مصحوبة بتذبذب الهطولات وازدياد الفترات الجافة أدى إلى تقليص فترة الزراعة، وقلّل من فرص تجدد الغطاء النباتي، ما زاد من تعرية التربة وجعل التصحر يمتد تدريجياً من مناطق الرعي إلى الأراضي الزراعية، وهذا التدهور يبدو جلياً في المناطق الممتدة جنوباً ولكنه أيضاً يتزايد في أرجاء المحافظات الأخرى التي تتعرض لنفس الظروف المناخية.
ويظهر الرسم البياني تناقص الزراعة البعلية في المملكة بدرجة ملحوظة خلال 7 أعوام، حيث كانت مساحتها 1,391,202 مليون دونم عام 2016 وتراجعت إلى 845,171.9 ألف دونم عام 2023، وأشار عيد إلى أن هذا التدهور في الزراعة البعلية في المناطق التي تشهد جفافاً مثل الكرك، دفع المزارعين إلى التحوّل من الزراعة البعلية إلى الزراعة المروية كحل مؤقت، لكن هذا الحل عملياً يفاقم معضلة أخرى تتعلق بزيادة الاعتماد على مصادر المياه الشحيحة أصلاً كالمياه الجوفية.
وأوضح عيد أن التحول المتسارع من الزراعة البعلية إلى المروية، رغم كونه استجابة منطقية للجفاف، يفاقم المشكلة من جهة أخرى، إذ يؤدي استنزاف المياه الجوفية لتملّح التربة، وتدهور خصوبتها بفعل سوء إدارة الموارد، كما يقلل من تغذية الأحواض المائية التي تعتمد على مصدر المياه المياه الجوفية.
يقول الخبير البيئي حسين الكسواني: ” في السنوات القادمة ستزيد درجات الحرارة في الأردن ويزيد الضغط على المناطق الحدية وبالتالي تقل مساحتها ويزيد التصحر فيها، فهي على الحد بين المناطق المتوسطية والصحراوية، وبذلك تتحول أيضاً المناطق المتوسطية إلى مناطق حدية”.
تشكل نسبة النمط الحدي في الأردن نحو 20%، وهو النمط الأكثر عرضة للتأثر بالتغير المناخي والتصحر، وهو أحد الأنماط الأربعة الأساسية في المملكة، والثلاثة أنماط الأخرى هي: النمط المعتدل والمتوسطي وهو أكثر الأنماط اعتدالاً بدرجة الحرارة وأكثرها بنسبة الامطار، ويتركز في شمال الأردن ولا تتعدى نسبته 20% من المملكة، والنمط الصحراوي والذي يقدر بـ40%، والنمط الاستوائي الذي يبدأ من العقبة جنوباً ويمتد بشكل متفرع للشمال، ويعد الأكثر حرارة بين الأنماط الأربعة.
وبحسب مركز الملكة رانيا العبد الله لعلوم وتكنولوجيا البيئة فإنه في حال ارتفعت الحرارة درجة مئوية واحدة في العام 2030 وتراجع الهطول المطري بنسبة 10%، فإن إنتاجية المحاصيل ستنخفض بنسبة 5%، وستتراجع المساحة المزروعة بنسبة 18%، وسيشكل ذلك حتماً تهديداً كبيراً للأمن الغذائي المستقبلي.
إن التصحر لم يعد مجرد تغير بيئي عابر، بل خطر زاحف يهدد الإنسان والأرض، من الجوزة إلى فقوع، ومن الكرك إلى سائر المحافظات التي تعاني منه.