الطرد الصامت: كيف تُعاد هندسة أراضي الضفة الغربية بالقوة؟

Posted by

رنا صلاحات – ركان شجراوي – مؤيد القاضي

في أواخر أيّار الفائت، وتحديدًا في قرية زوّيتين الواقعة جنوب الخليل، اضطر سعد، وهو مزارع خمسيني، إلى مغادرة أرضه ومراعيه التي اعتاد رعي أغنامه فيها منذ عقود، ولم يكن السبب جفافًا أو مرضًا، بل تهديدا مباشر من مستوطن مسلح، وسط حماية مسلحة من جنود الاحتلال الذين كانوا على مقربة.  لا تبدأ القصة داخل هذا المشهد من اتفاقيات دولية أو قرارات أممية منسية، بل من خطوات سعد المتعبة، وهو يجرّ ما تبقى من أغنامه مبتعدًا عن مرعاه الذي ورثه عن أجداده، مطرودًا برشاش مستوطن وجندي لا يرحم.

قصة سعد ليست استثناءً، بل تمثل واقعًا متكررًا يعيشه سكان المناطق المصنفة (ج) في الضفة الغربية، حيث تزداد وتيرة الاعتداءات الاستيطانية، وتتقلص المساحات المتاحة للعيش والزراعة والرعي، وحتى الحركة. 

منذ نهاية عام 2023، تشهد الضفة الغربية موجة متسارعة من الأنشطة الاستيطانية غير المسبوقة، مدفوعة بتوجهات الحكومة الإسرائيلية اليمينية بعد الحرب في أكتوبر من ذلك العام. ففي منتصف 2023، صادقت الحكومة على بناء نحو 5,700 وحدة استيطانية جديدة، تلتها الموافقة على أكثر من 7,000 وحدة إضافية في أوائل 2024، ضمن خطط تعززها ميزانيات ضخمة مخصصة للبنية التحتية الداعمة للمستوطنات.

وفي مارس 2025، صادق المجلس الوزاري الأمني المصغر (الكابينيت) على فصل إداري لـ13 مستوطنة عن المجتمعات الحاضنة لها، مانحًا إياها استقلالًا مؤسسيًا، وذلك بالتوازي مع إعلان رسمي عن خطط لبناء عشرات آلاف الوحدات الاستيطانية الجديدة في الضفة الغربية، وبحسب منظمة “السلام الآن”، فإن العام الذي أعقب حرب أكتوبر شهد قفزة كبيرة في إقامة البؤر الاستيطانية، حيث ظهرت 43 بؤرة جديدة – معظمها زراعية – وهو عدد يتجاوز بكثير المتوسط السنوي الذي لم يتعدَّ سبع بؤر على مدار العقود الثلاثة السابقة.

وعلى صعيد الدعم المالي، خصصت الحكومة الإسرائيلية 28 مليون شيكل (نحو 7.5 مليون دولار) في عام 2023 لدعم البؤر الاستيطانية الجديدة، ورفعت هذا المبلغ إلى 75 مليون شيكل (نحو 20 مليون دولار) في 2024. كما تم إضفاء الصفة القانونية على ثماني بؤر، إلى جانب تخصيص نحو 7 مليارات شيكل (1.9 مليار دولار) لتطوير شبكة طرق استراتيجية تربط المستوطنات وتخدم توسعها المستقبلي.

يقول الخبير المختص بشؤون الخرائط والاستيطان، خليل التفكجي، إن الحكومة الإسرائيلية استغلت انشغال العالم بالحرب على غزة للتسريع في تنفيذ مخططات قديمة لتوسيع مخطط “القدس الكبرى” وتطويق الأحياء الفلسطينية. “أرى أن دولة الإحتلال انتهت عملياً من إقامة مخطط القدس الكبرى بعدما حوّطت أحياء شرقي القدس بالاستيطان ووصلت إلى مرحلة انتظار القرار السياسي لإعلان ذلك”. وأضاف أن الاستيلاء على الأراضي في الضفة يتم عبر ما سمّاه “الراعي العبري”، والبؤر الرعوية، حيث يطرد المستوطنون المتطرفون الرعاة الفلسطينيين ويستولون على أراضيهم.

يُقدَّر عدد المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية والقدس الشرقية بنحو 700 ألف مستوطن، يعيشون وسط ما يقارب 2.7 مليون فلسطيني. وتُعدّ القدس الشرقية – التي ضُمّت إلى إسرائيل بعد احتلال عام 1967 – المنطقة الأعلى كثافة من حيث الوجود الاستيطاني، حيث يقطن فيها أكثر من 230 ألف مستوطن موزعين على أحياء استيطانية كبيرة مثل “بسغات زئيف”، “غيلو”، و”هار حوما”.كما تغطي المستوطنات الإسرائيلية، إلى جانب شبكات الطرق الالتفافية والحواجز العسكرية، مساحات شاسعة من أراضي الضفة الغربية، ما يُعيق بشدة أي تواصل جغرافي فعّال بين المدن والبلدات الفلسطينية.

الواقع الميداني وأنواع الاستيطان

تتنوع أشكال الاستيطان في الميدان، من مستوطنات كبيرة رسمية مدعومة بالسياج الأمني والطرق المؤدية إليها، إلى “بؤر” استيطانية صغيرة غير مرخصة من جانب الحكومة الإسرائيلية نفسها. وتقوم السلطات بتشييد طرق التفافية وجسور وأنفاق لإيصال المستوطنين بالأغوار والنقب دون المرور بالمناطق الفلسطينية. وتشهد المناطق المصنفة (ج) الخاضعة لسيطرة مدنية إسرائيلية توسيع مستمر للمستوطنات القائمة، خاصة حول القدس، مثل مشاريع الـ “E1” و”كدموت صهيون”، ومناطق الأغوار وشمال الضفة. كما تقوم الأجهزة الإسرائيلية بنصب حواجز ونقاط تفتيش لتعزل قرى فلسطينية عن مدنها، وتستولي على المزيد من الأراضي بحجة تأمين المستوطنات.

كل ذلك أدى إلى فقدان مئات الدونمات من الأراضي الفلسطينية، ومزارع دمرها المستوطنون وتجاوزات الجيش. مصطفى خاطر كان آخر شاهد على هذه الانتهاكات حتى اللحظة. يصف لنا خاطر كيف جلس في الثالث والعشرين من مايو يشاهد من شرفة منزله رقص المستوطنين احتفالًا بإنشاء بؤرة استيطانية جديدة فوق منزله في قرية بروقين الواقعة في محافظة سلفيت شمال الضفة الغربية.

(مقابلة مصطفى الصوتية)

التأثير الاقتصادي والاجتماعي

لكل هذه الإجراءات تبعات اقتصادية واجتماعية كبيرة على الفلسطينيين. أدى تقييد الحركة الحاد وسلسلة العمليات العسكرية في الضفة إلى تباطؤ اقتصادي وارتفاع البطالة. فبحسب وزارة الإحصاء الفلسطينية، ارتفعت نسبة البطالة في الضفة الغربية إلى 31% عام 2024، أي نحو ثلث القوى العاملة، مقابل 18% في عام 2023. والأثر الأشد وقع في قطاع الزراعة والرعي؛ إذ يؤثر اقتلاع المزارع الفلسطينية وتوسيع المستوطنات، -التي توفر تسهيلات حكومية ونظاماً ضريبياً تفضيليًّا-، سلبًا على قدرة الفلسطينيين على تربية الماشية وزراعة أراضيهم.، حيث يسيطر المستوطنون على نحو 9,300 هكتار من الأراضي الزراعية في الضفة، فيما تغطي المناطق الصناعية الإسرائيلية في الضفة مساحة تتجاوز 1,300 هكتار، وهذا يشكل ضغطًا اقتصاديًّا مباشراً على الفلاحين الفلسطينيين الذين يُحولون من موارد معيشتهم.

تجلى ذلك في موسم حصاد الزيتون الأخير، حيث تقاطعت الانتهاكات مع مرارة ما عانى منه المزارع أيوب أبو حجلة مع موسم الحصاد الأخيرفي قرية دير إستيا في نابلس. حضّر مزارع الزيتون والعنب والبساتين وجنى محصول الصيف، لكنه لم يستطيع الوصول إلى أرضه لحصاد شجره المثمر. يقول أبو حجلة: “زرعت حوالي 370 شجرة زيتون… هذا الموسم لم أتمكن من حصاد حبة واحدة”، ويشرح أن آليات الاحتلال أغلقت الطريق ومنعته قوات الجيش وعصابات المستوطنين من الوصول إلى أراضيه منذ اندلاع الحرب الأخيرة. وأضاف: “واجهنا بعض الصعوبات سابقًا في موسم الحصاد، لكن هذا الموسم كان فظيعًا”.

تتفاقم الأوضاع الاجتماعية بسبب تزايد اعتداءات المستوطنين التي أرخت أجواء من الخوف والقطيعة. ففي عام 2024 وثقت الأمم المتحدة 1,432 هجومًا ارتكبه مستوطنون إسرائيليون ضد فلسطينيين أو ممتلكاتهم، منها 204 حالة شارك فيها مقذوفات حارقة مثل المولوتوف. وبلغ عدد الاعتداءات بين أكتوبر 2023 ونهاية 2024 حوالي 1,860 حادثة (بمعدل أربعة هجمات يوميًا. تراوحت تلك الاعتداءات بين حرق مزارع وإتلاف ممتلكات وهجمات عنيفة على الأهالي (يُصاب فيها سنويًّا عشرات الفلسطينيين بجروح). وتضمنت حوادث أخرى اقتحامات لأحياء فلسطينية وإغلاق مدراس ونقل طُلاب، بل وإغراق مناطق رَعي بالمخلفات. إضافة إلى ذلك، سبّبت جدران إسمنتية وعوائق عسكرية جديدة إغلاق طرق حيوية مثل الشارع رقم 60 الرابط بين الشمال والجنوب، مما أجبر القرى الفلسطينية على التحوّل لمسارات فرعية متعرجة. 

وهو ما أكده رئيس هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، الوزير مؤيد شعبان، قائلًا: “محافظة نابلس تتصدر المشهد، خصوصًا في بلدات مثل حوارة، بورين، وعينبوس، حيث تُسجَّل أعلى نسبة اعتداءات للمستوطنين، يليها مناطق جنوب الخليل والأغوار الشمالية. الهجمات تشمل ترويع الأهالي، حرق محاصيل، سرقة مواشي، وإقامة حواجز استيطانية تمنع المزارعين من الوصول إلى أراضيهم”.

 وفي هذا السياق، يحذر شعبان، من تصاعد اعتداءات جيش الاحتلال والمستوطنين ضد الفلسطينيين في الضفة، مشيرًا إلى عددها القياسي مؤخرًا، حيث قال إن القوات الإسرائيلية والمستوطنين نفذوا ما مجموعه 1693 اعتداء خلال نيسان 2025 فقط، في استمرار ما وصفه بـ”مسلسل الإرهاب المتواصل بحق الفلسطينيين وأراضيهم”، وأضاف أن أخطرها هو الاستيطان الزراعي الذي يستهدف الريف الفلسطيني لسبب الخزان الاستراتيجي للأرض. “البؤر الزراعية تُقام على أراضي الرعي والزراعة التي تشكّل مصدر رزق رئيسي للعائلات، وفي بعض المناطق مثل مسافر يطا، نحكي عن مخططات تهجير جماعي بحجة “التدريبات العسكرية” أو “الطبيعة”، وكلها ذرائع لسرقة الأرض”.

هدم المنازل والتهجير القسري

يمثل الهدم المتكرر للمنازل الفلسطينية أحد أبرز أوجه تأثير التوسع الاستيطاني، تُعد معظم هذه الهدم مبررة من قبل السلطات الإسرائيلية بانعدام تراخيص البناء، التي يصعب للغاية الحصول عليها للفلسطينيين. وبحسب هيئة مقاومة الجدار والإستيطان، فإن 1,177 منشأة فلسطينية هُدمت أو صودرت عام 2023 في الضفة الغربية والقدس الشرقية. 

يقول شعبان: “تتعمد دولة الإحتلال فرض سياسة التهجير على الهدم، هذه السياسة تسببت في تشريد مئات العائلات الفلسطينية، إذ ارتفع عدد الفلسطينيين الذين نزحوا قسرًا في 2023 إلى مستويات قياسية، حتى الآن رصدنا نزوح نحو 4,000 فلسطيني في الضفة هذا العام، وتشمل هذه البيانات نزوحًا جماعيًا تم بفعل هدم المنازل، وأخرى بسبب عمليات عسكرية لإسرائيل، إضافة إلى ذلك، نزح 1,539 فلسطينيًا، بينهم 756 طفلاً من منازلهم في مناطق (ج) نتيجة عنف المستوطنين وتقييد وصول الرعاة إلى أراضيهم.

ويُظهر الرسم البياني التالي اتساع الفجوة بين السياسات الاستيطانية والهدم، حيث ارتفع عدد الوحدات الاستيطانية الجديدة بشكل غير مسبوق منذ عام 2020، في حين حافظت معدلات هدم المنازل الفلسطينية على مستويات شبه ثابتة، ما يعكس سياسة موازية لفرض السيطرة، وهي التوسع في البناء للمستوطنين مقابل الضغط والإخلاء للفلسطينيين.

وحول سؤاله عن الإجراءات التي تتخذها هيئة مقاومة الجدار والاستيطان لمواجهة هذه الإنتهاكات، قال شعبان: “لدينا ثلاث مسارات رئيسية: أولًا، التوثيق الدقيق لكل انتهاك استيطاني، لأن المعركة القانونية تعتمد على الأدلة. ثانيًا، دعم صمود المزارعين عبر تقديم المساعدة القانونية، وبناء الخِرَب، وشق الطرق الزراعية. وثالثًا، العمل الميداني، من خلال تنظيم الفعاليات الشعبية، والتنسيق مع القوى الوطنية والمتضامنين الأجانب لمرافقة الأهالي في المناطق المستهدفة”. 

يتكبد الفلسطينيون خسائر ضخمة ومتعددة الأبعاد، فقد دُمرت مئات المنازل وأجبرت مئات العائلات على النزوح الداخلي، ونُهبت آلاف الدونمات من الأراضي الصالحة للزراعة، كما تأثرت الخدمات الأساسية كالمياه والكهرباء والطرق بسبب احتياجها لاعتبارات عسكرية واستيطانية، وتسببت سياسة الاستيطان المتواصلة بتعميق أزمات معيشية وكوارث اجتماعية للفلسطينيين، فكل توسيع استيطاني يعني ضم مزيد من الأراضي، وتراجع الخيارات المتاحة للفلسطينيين في السكن والعمل والتنقل، وبالنتيجة، تزداد معاناة السكان ويقل لديهم اليقين بإمكانية البقاء على أرضهم.

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *